في المكتب البيضاوي بعد ظهر الأربعاء، كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يستمتع بما اعتبره نجاحاً لحقبة جديدة من الرسوم الجمركية المرتفعة على الواردات من معظم دول العالم.
وقال ترامب عن سياسته التجارية الحمائية الراديكالية: “لقد بدأنا للتو.. هذه مجرد مرحلة أولية.. لدينا بلد سيصبح غنياً جداً”.
وبينما كان الرئيس يستمتع باللحظة، شكل مطلع أغسطس فترة قلق للشركاء التجاريين الأكبر للولايات المتحدة وللاقتصاد العالمي.
فبعض الدول، مثل الاتحاد الأوروبي واليابان، حصلت على إعفاء جزئي بعد أن توصل مفاوضوها إلى اتفاقات متأخرة مع واشنطن لتقليص الرسوم الجمركية المخطط فرضها على معظم منتجاتها.
لكن دولاً أخرى، من بينها البرازيل والهند وسويسرا، تُركت لمواجهة رسوم أعلى أثارت غضبها وجعلتها في حيرة من كيفية اتخاذ رد فعل، حسب ما أوضحته صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.
أظهر التباين في نتائج الجولة الأخيرة من المفاوضات التجارية كيف أن الرئيس، البالغ من العمر 79 عاماً، يستخدم الرسوم الجمركية بشكل متزايد ليس فقط لتحقيق أهداف اقتصادية، بل أيضاً لدفع مصالح جيوسياسية ودبلوماسية، مستعملاً قوة الاقتصاد الأمريكي كسلاح ضد أي دولة ترفض الانصياع لإرادته.
خبراء يحذرون من أن جرأة “ترامب” في فرض الرسوم تهدد بانهيار أوسع للنظام التجاري العالمي
وقال روبرت زوليك، الممثل التجاري الأمريكي الأسبق في عهد جورج بوش الابن ورئيس البنك الدولي السابق: “ترامب ليس معنياً بالسياسات بقدر ما هو معني بعقد الصفقات والتعاملات. لقد أدرك أن الولايات المتحدة تملك قوة اقتصادية هائلة وأن الرسوم الجمركية تمثل أداة ضغط وطريقة لإظهار الهيمنة”.
في حالة البرازيل، برر ترامب فرض رسوم عقابية بنسبة 50% بالإشارة إلى قرارات قضائية في البلاد، بما في ذلك محاكمة الرئيس السابق جايير بولسونارو وتنظيم المحكمة العليا لمحتوى وسائل التواصل الاجتماعي.
أما بالنسبة للهند، فقد رفع ترامب الرسوم الأمريكية المخطط لها من 25% إلى 50% رداً على مشتريات نيودلهي من النفط الروسي، وذلك في وقت يسعى فيه للتوسط في اتفاق سلام لإنهاء الحرب في أوكرانيا.
قال ترامب مؤخراً إن خطوة كندا للاعتراف بدولة فلسطينية في الشرق الأوسط ستجعل من “الصعب جداً” حل المفاوضات التجارية العالقة، وذلك بعدما رفع الرسوم على السلع الكندية خارج إطار اتفاقية التجارة الإقليمية إلى 35%.
كما قالت كيمبرلي كلاوسين، أستاذة الاقتصاد بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس ومسؤولة سابقة في وزارة الخزانة في عهد جو بايدن: “لقد استقر الأمر على مستوى تحكمه البراجماتية البحتة… مع الرسوم الجمركية كأداة رئيسية”.
ويقول العديد من خبراء التجارة ومسؤوليها حول العالم، إن الربط الصريح بين السياسة الاقتصادية والنتائج السياسية سيزيد من حالة عدم اليقين بشأن سياسات ترامب التجارية، إذ يمكنه رفع أو خفض الرسوم الأمريكية بشكل غير متوقع تبعاً لأهدافه في اللحظة، سواء تم التوصل إلى اتفاق أم لا.
وقال دوجلاس إروين، أستاذ الاقتصاد في جامعة دارتموث: “هذا يثير تساؤلات حول جميع الصفقات التي تم التوصل إليها. قد تستمر لأسابيع، لكن هل يمكن أن يظهر سبب جديد تبرر به إدارة ترامب فرض رسوم أعلى أو إلغاء الصفقة؟ لا أحد يعلم”.
سبق أن أبدى ترامب ميلاً لاستخدام الرسوم الجمركية كأداة تفاوض دبلوماسية.
ففي ولايته الأولى، هدد المكسيك برسوم مرتفعة لإجبارها على الحد من تدفقات الهجرة، وفي بداية ولايته الثانية تعهد بفرض رسوم على واردات كولومبيا ما لم تقبل بترحيل المرحلين من الولايات المتحدة.
لكن استعداد ترامب لفرض عقوبات تجارية على دول لأسباب غير اقتصادية بحتة قد ازداد بشكل ملحوظ خلال الأشهر الستة الأولى من ولايته الثانية.
روبرت زوليك: “ترامب ليس معنياً بالسياسات بقدر ما هو معني بعقد الصفقات والتعاملات”
فإضافة إلى الرسوم الجمركية المفروضة على الهند والبرازيل، فرض ترامب رسوماً إضافية على الصين وكندا والمكسيك، أكبر ثلاثة شركاء تجاريين للولايات المتحدة، بحجة أنهم لا يبذلون ما يكفي للحد من تجارة الفنتانيل.
وفي أواخر يونيو، هاجم إسبانيا لرفضها زيادة الإنفاق الدفاعي، محذراً من أنها “ستدفع ضعف الثمن” في التجارة بسبب هذا الموقف.
رغم أن القواعد العالمية للتجارة بعد الحرب العالمية الثانية منحت الدول هامشاً لفرض قيود تجارية لأسباب تتعلق بالأمن القومي، يخشى خبراء التجارة من أن خطوات ترامب جريئة بشكل خاص وقد تؤدي إلى مزيد من الانهيار في النظام التجاري الدولي.
وقال مارك بوش، أستاذ دبلوماسية الأعمال الدولية في جامعة جورجتاون: “فكرة أن ترامب هو القاضي وهيئة المحلفين فيما يتعلق بالخطايا المرتكبة، أمر استفزازي للغاية. وقد يكون هذا هو السبب الأكثر احتمالاً لاندلاع ضربات انتقامية بالرسوم الجمركية ضد الولايات المتحدة”.
وقد ردت نيودلهي وبرازيليا بتحدٍ على فرض بعض من أعلى الرسوم الأمريكية في العالم عليهما.
وقال رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي للصحفيين يوم الخميس، إن “الهند لن تساوم أبداً على رفاهية مزارعيها وقطاع الألبان والصيادين. وأعلم شخصياً أنني سأدفع ثمناً باهظاً لذلك”.
أما الرئيس البرازيلي لولا إيناسيو دا سيلفا، فقال لوكالة أنباء “رويترز” إنه لن يتردد في التحدث إلى ترامب، “لكن حدسي اليوم يقول إنه لا يريد الحديث. ولن أذل نفسي”.
وأضاف أن الرد يجب أن يكون منسقاً مع دول “بريكس”، التي تضم البرازيل والهند، لكن أياً منها لم يقترح تصعيداً جديداً ضد واشنطن.
من منظور مسؤولي إدارة ترامب، يبقى الدافع الاقتصادي وراء الرسوم، المتمثل في إعادة تشكيل العلاقات التجارية الأمريكية مع العالم، هو الأهم.
ففي أكثر بقليل من ستة أشهر منذ توليه المنصب، رفع ترامب الرسوم الأمريكية إلى أعلى مستوى فعلي لها منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وأحياناً قام بإلغاء اتفاقات تجارة حرة قائمة.
وفي مطلع أبريل وصف ذلك بأنه “إعلان استقلال اقتصادي” لأمريكا.
هذا الأسبوع، عرض وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت النظام الجمركي في إطار اقتصادي بحت، باعتباره محاولة لـ”إعادة التوازن التجاري لصالح أمريكا”.
يرى مسؤولو إدارة ترامب أن الرسوم المفروضة لأسباب اقتصادية تختلف عن تلك المفروضة لأسباب سياسية أو دبلوماسية، والتي قد تتغير أكثر.
وقال مسؤول في البيت الأبيض إن “الرسوم أداة اقتصادية يمكن أن تخدم أغراضاً متعددة في سياقات مختلفة. وفي حالة الهند والبرازيل، فهي أيضاً لتحقيق أهداف في السياسة الخارجية والأمن القومي”.
كما شجّع المسؤولين رد فعل الأسواق الباهت على الرسوم التي فرضها الرئيس في الأسابيع الماضية.
ففي أبريل، اضطر ترامب إلى تعليق الرسوم مؤقتاً بفعل انهيار في أسواق الأسهم العالمية وعمليات بيع حادة في سندات الخزانة الأمريكية، لكن مؤشرات الأسهم تعافت منذ ذلك الحين، رغم تراجع قيمة الدولار الأمريكي مقارنة بالعملات الأخرى.
وفي المقابل، بدأت بوادر تأثير الرسوم على الاقتصاد بشكل أوسع، مع تباطؤ حاد في نمو الوظائف الأمريكية.
وقال زوليك: “بمرور الوقت، ستضيف هذه الرسوم تكاليف، وترفع الأسعار، وتبطئ الإنتاجية. وسيستمر ذلك”.
رغم أن الرسوم الانتقامية الجديدة التي فرضت مؤخراً أقل حدة من الرسوم الكبيرة التي فرضت في أبريل، يحذر خبراء التجارة من أن الاتفاقات المبرمة قد تكون هشة.
فعادة ما تكون الاتفاقات التجارية وثائق قانونية ملزمة تمتد لعشرات الصفحات، ويقرها السياسيون في كل دولة طرف في الاتفاق. لكن بعض اتفاقات ترامب الأخيرة وُصفت في منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي فقط.
عن ذلك، قال تيد مورفي، محامي التجارة في شركة “سيدلي أوستن” الأمريكية: “لا شيء من هذا قابل للتنفيذ، ليس هناك سلطة أعلى يمكنك الاستئناف إليها. ماذا يحدث عندما يتوقف الرئيس ترامب عن الالتزام باتفاقك التجاري؟”.
حتى بعض الصفقات الأكثر تقدماً التي أبرمها ترامب مؤخراً، بما في ذلك مع المملكة المتحدة وإندونيسيا، أسفرت عن نصوص مكتوبة مشتركة، لكن حتى في هذه الحالات، لا تزال أجزاء من الاتفاقات غير منفذة.
ففي حالة الصفقة الأمريكية البريطانية، على سبيل المثال، اتفق الطرفان على منح المملكة المتحدة حصة ذات رسوم أقل على الصلب، لكن بعد أشهر من إبرام الاتفاق، لم تظهر أي تفاصيل إضافية ولا تزال المملكة المتحدة تدفع رسوماً بنسبة 25% على الصلب الخاص بها.
معظم الاتفاقات لم تُنتج نصاً مكتوباً مشتركاً، مما أدى أحياناً إلى اختلاف الطرفين في تفسير ما تم الاتفاق عليه.
ففي الأيام التي تلت اتفاق ترامب التجاري مع الاتحاد الأوروبي، أصر دبلوماسيون فرنسيون على أن الولايات المتحدة قد تعفي النبيذ والمشروبات الروحية من الرسوم، لكن المسؤولين الأمريكيين أكدوا أنهم سيفرضون الرسوم على جميع أنواع النبيذ والمشروبات الروحية الأوروبية، بما في ذلك الشمبانيا والكونياك الفرنسيين.
كما خرجت دول أخرى من اتفاقاتها التجارية بروايات مختلفة حول التعهدات الاستثمارية والالتزامات التي قُطعت لصالح الولايات المتحدة.
وقال ترامب إن اليابان تعهدت باستثمارات قيمتها 550 مليار دولار في الولايات المتحدة، وأن 90% من أرباح هذه المشاريع ستذهب لأمريكا.
لكن المسؤولين اليابانيين قالوا إن الولايات المتحدة ستحصل على 90% من الأرباح فقط إذا تحملت قدراً متناسباً من المخاطر والتمويل.
يبقى السؤال ما إذا كانت هذه الخلافات ستؤدي إلى مزيد من النزاعات لاحقاً.
ويقول مسؤول في البيت الأبيض إنه لا يتوقع أن “تنقض” واشنطن أو تعدل الاتفاقات المبرمة حديثاً، ولن يحدث ذلك إلا إذا طرأ تغيير كبير في الظروف.
وأضاف: “نحن نحب هذه الصفقات، ونعتقد أنها صفقات رائعة”.
لكن الاحتمال القائم دائماً لحدوث تراجع كهذا سيضخ حالة دائمة من عدم اليقين في النظام التجاري العالمي، بحسب مورفي.
وقال: “لو كنت شريكاً تجارياً للولايات المتحدة، سيكون سؤالي: ما الذي يمنع الرئيس ترامب من القول إنها ليست 600 مليار دولار، بل 700 أو 800 مليار؟ كيف نمنع تغير الأهداف؟”
0 تعليق