القرن الأوراسي

الخليج 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ

في عالم يتغير بوتيرة متسارعة، حيث تزداد حدة المواجهات بين القوى الكبرى، يقدّم المؤرخ هال براندز في كتابه «القرن الأوراسي: الحروب الساخنة والباردة وصناعة العالم الحديث» قراءة مختلفة للصراعات الجيوسياسية الراهنة. فبينما يعتقد الكثيرون أن العصر الحديث هو عصر الهيمنة الأمريكية، يكشف الكتاب أننا  نعيش في قلب «قرن أوراسي» طويل، تلعب فيه القوى الاستبدادية دوراً محورياً في رسم مستقبل العالم.


كما يوحي الاسم، تتكون أوراسيا من الامتداد المدمج للقارتين القديمتين في نصف الكرة الشمالي: أوروبا وآسيا. وتشمل أيضاً الجزر الخارجية للقارات، المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بأطراف أوراسيا، وكذلك شمال إفريقيا الذي يرتبط تماماً بأوروبا عبر البحر المتوسط، بينما يفصله عن باقي إفريقيا الصحراء الكبرى. تمتد أوراسيا إذاً من السواحل الشرقية لآسيا وصولاً إلى شبه الجزيرة الإيبيرية في الغرب، ومن الجزر البريطانية في الشمال الغربي إلى المحيط الهندي في الجنوب.
وتتضمن أوراسيا سهولاً شاسعة، وجبالاً، وهضاباً، وصحارى، وغابات، ومعظم التضاريس الموجودة على كوكب الأرض تقريباً. وتغطي ما يزيد على ثلث مساحة اليابسة في العالم، وتضم نحو 70% من سكان العالم بالإضافة إلى أغلب القوة الصناعية والعسكرية العالمية. وهي مهد الديانات الخمس الكبرى للبشرية، ومركز نشأة العديد من الحضارات التي شكّلت تاريخ العالم. تمتد بحارها الداخلية، من البحر المتوسط إلى بحر الصين الجنوبي، كممرات رئيسية للتجارة، كما تتصل أوراسيا بجميع المحيطات الكبرى التي تنقل البضائع والأساطيل والجيوش حول العالم.
ويعلّق الكاتب على ذلك قائلاً: «من المؤكد أن المشهد الأوراسي لم يكن ثابتاً أبداً. ففي معظم فترات العصر الحديث، كانت القوة الدافعة لأوراسيا هي أوروبا الغربية، حتى مرحلة التعافي بعد الحرب العالمية الثانية لليابان، والنهضة المذهلة للصين، وتطور آسيا الذي حوّل مركز الثقل الاقتصادي العالمي شرقاً. وعندما ظهرت فكرة أوراسيا لأول مرة، كان الساسة في بدايات فهمهم للتداعيات الاستراتيجية للنفط والقوة الجوية، ومع حلول عشرينيات القرن الحادي والعشرين، دخلت أوراسيا والعالم في انتقال طويل ومعقد نحو نظام جديد، وبدأت مواجهة احتمالات الصراع في الفضاء الرقمي».

محاولات الهيمنة وصراع القوى الكبرى


كان الموقع البحري الساخن في أوراسيا في السابق هو بحر الشمال، حيث واجهت ألمانيا بريطانيا، واليوم، أصبحت الممرات المائية الأكثر حساسية هي مضيق تايوان، وبحر الصين الجنوبي، وأماكن أخرى تلتقي فيها المصالح الصينية والأمريكية. ويشير الكاتب إلى أنه «ما لم يتغير، وسط كل هذا التطور والثورات، هو أن أوراسيا لا تزال المسرح الرئيسي للأحداث، فهي حيث يعيش معظم سكان العالم وتدور غالبية النشاطات الاقتصادية، حيث تقع أقوى دول العالم – باستثناء الولايات المتحدة – وحيث تتركز المناطق والبحار التي تحدد أعتى الخصومات الجيوسياسية. لهذا السبب، ظل العالم يتقلب ويتشكل من جديد، وكاد أن يُدمّر بالكامل بفعل صراعات مصيرية حول السيطرة على هذه القارة العظمى واستراتيجيات الوصول إليها».
يرى براندز أن «القارة الأوراسية»، بما تحمله من ثروات طبيعية هائلة وقوة صناعية وعسكرية ضخمة، وبما تضمّه من غالبية سكان العالم، هي الجائزة الاستراتيجية الأهم في الصراع الدولي منذ بدايات القرن العشرين. فمنذ عهد القيصر فيلهلم الثاني في ألمانيا مروراً بالاتحاد السوفييتي، وصولاً إلى الصين وروسيا وإيران اليوم، سعت قوى استبدادية إلى السيطرة على قلب هذه القارة لإعادة تشكيل النظام العالمي بما يخدم مصالحها التوسعية.
في المقابل، حاولت القوى البحرية الكبرى، مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة، الحفاظ على التوازن العالمي وجعل العالم آمناً للديمقراطية من خلال منع سيطرة أي قوة واحدة على أوراسيا. ويشير الكتاب إلى أن المواجهات الأمريكية الحالية مع الصين وروسيا وإيران ليست سوى جولة جديدة من لعبة جيوسياسية مستمرة، قد تؤدي في حال نجاح محور هذه القوى إلى فرض نظام دولي بديل يهدد أمن الولايات المتحدة والديمقراطيات الغربية بأسرها.
يُبرز المؤلف أن فهم الجغرافيا الاستراتيجية لأوراسيا يساعد على قراءة أوضح لمسارات الصراع العالمي اليوم. فقد كانت التحولات التكنولوجية في الحروب والأيديولوجيات الإمبريالية السامة سبباً في جعل أوراسيا مركز الجاذبية في السياسة الدولية خلال القرن العشرين. واليوم، ومع صعود قوى استبدادية جديدة وتنامي النزاعات الإقليمية، يزداد تأثير أوراسيا في تحديد ملامح القرن الحادي والعشرين، سواء في الاقتصاد أو الأمن العالمي.

دروس الماضي


قبيل الحرب العالمية الثانية، انشغلت شخصيات متنوعة – من رؤساء أمريكيين إلى مثقفين نازيين – بأوراسيا كمصدر لا مثيل له للموارد والقوة. ومع بداية الحرب الباردة، كانت وثائق التخطيط الأمريكية السرية ملأى بالإشارات إلى هذه الرقعة الجغرافية، باعتبارها المنطقة الحاسمة التي لا يمكن لواشنطن أن تسمح لأي منافس بالسيطرة عليها. هذا المفهوم تسلل إلى أبرز الأعمال الأدبية السياسية في القرن العشرين، ففي رواية جورج أورويل الشهيرة 1984 المنشورة عام 1949، تظهر أوراسيا كقوة شمولية عملاقة غارقة في حرب دائمة، في إشارة لم يكن يحتاج القارئ حينها إلى شرحها.
على مدى أجيال، كان كل من يعرف الشؤون العالمية يدرك أن أوراسيا هي المنطقة المحطمة التي تتصادم فيها الإمبراطوريات. واليوم يعود هذا المفهوم بقوة مع تحوّل أوراسيا مجدداً إلى مركز للتنافس والصراع العالمي. لكن ما الذي يميز «القرن الأوراسي» عن غيره من الحقب؟ فالمعالم الجغرافية للأرض لم تتغير فجأة في عام 1900، ولم يكن القرن العشرون المرة الأولى التي تصبح فيها أوراسيا موضوعاً لخلاف حاد. وكما يشير المؤرخ جون داروين، فإن شخصيات مثل أتيلا، وجنكيز خان، وتيمورلنك، سعت منذ قرون للسيطرة على مساحات شاسعة من أوراسيا. حتى القرون التي سبقت عام 1900 في أوروبا شهدت صراعات دامية، مثل حرب الثلاثين عاماً، والحروب التي أعقبت الثورة الفرنسية. أما في آسيا، فقد عرفت تاريخاً حافلاً بالتوترات والهيمنة الإمبراطورية، وصولاً إلى الدعاية الصينية المعاصرة.
ينقسم الكتاب إلى ستة فصول رئيسية تسبقها مقدمة، يبدأ فيها الكاتب باستعراض رؤية الجغرافي هالفورد ماكيندر حول العالم ودور أوراسيا في تشكيل موازين القوى. ينتقل بعدها إلى فصل «الإعصار الأسود العظيم» الذي يناقش موجات الصراعات العنيفة في القرن العشرين، ثم «الهاوية الشمولية»، حيث يسلط الضوء على صعود الأنظمة الاستبدادية وحروب الإبادة. وفي فصل «العصر الذهبي» يرسم المؤلف ملامح فترة من الازدهار النسبي قبل اندلاع النزاعات الكبرى. أما الفصل الخامس «القرن الأوراسي الثاني» فيتناول عودة الصراع على أوراسيا في العصر الحديث وصعود قوى جديدة تتحدى النظام العالمي القائم. ويختتم الكتاب بفصل «دروس الماضي» الذي يستخلص العبر من قرن من الحروب والتحولات السياسية لتفسير ملامح الصراع العالمي في الحاضر والمستقبل. يؤكد الكتاب أن الصراع على الأراضي الأوراسية لا يزال السمة الحاسمة للسياسة العالمية الحديثة، وأن البوتقة التي صهرت النظام العالمي في القرن الماضي ما تزال مشتعلة حتى اليوم.
كما يوحي الاسم، تتكون أوراسيا من الامتداد المدمج للقارتين القديمتين في نصف الكرة الشمالي: أوروبا وآسيا. وتشمل أيضاً الجزر الخارجية للقارات، المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بأطراف أوراسيا، وكذلك شمال إفريقيا الذي يرتبط تماماً بأوروبا عبر البحر المتوسط، بينما يفصله عن باقي إفريقيا الصحراء الكبرى. تمتد أوراسيا إذاً من السواحل الشرقية لآسيا وصولاً إلى شبه الجزيرة الإيبيرية في الغرب، ومن الجزر البريطانية في الشمال الغربي إلى المحيط الهندي في الجنوب.
وتتضمن أوراسيا سهولاً شاسعة، وجبالاً، وهضاباً، وصحارى، وغابات، ومعظم التضاريس الموجودة على كوكب الأرض تقريباً. وتغطي ما يزيد على ثلث مساحة اليابسة في العالم، وتضم نحو 70% من سكان العالم بالإضافة إلى أغلب القوة الصناعية والعسكرية العالمية. وهي مهد الديانات الخمس الكبرى للبشرية، ومركز نشأة العديد من الحضارات التي شكّلت تاريخ العالم. تمتد بحارها الداخلية، من البحر المتوسط إلى بحر الصين الجنوبي، كممرات رئيسية للتجارة، كما تتصل أوراسيا بجميع المحيطات الكبرى التي تنقل البضائع والأساطيل والجيوش حول العالم.
ويعلّق الكاتب على ذلك قائلاً: «من المؤكد أن المشهد الأوراسي لم يكن ثابتاً أبداً. ففي معظم فترات العصر الحديث، كانت القوة الدافعة لأوراسيا هي أوروبا الغربية، حتى مرحلة التعافي بعد الحرب العالمية الثانية لليابان، والنهضة المذهلة للصين، وتطور آسيا الذي حوّل مركز الثقل الاقتصادي العالمي شرقاً. وعندما ظهرت فكرة أوراسيا لأول مرة، كان الساسة في بدايات فهمهم للتداعيات الاستراتيجية للنفط والقوة الجوية، ومع حلول عشرينيات القرن الحادي والعشرين، دخلت أوراسيا والعالم في انتقال طويل ومعقد نحو نظام جديد، وبدأت مواجهة احتمالات الصراع في الفضاء الرقمي».

محاولات الهيمنة وصراع القوى الكبرى


كان الموقع البحري الساخن في أوراسيا في السابق هو بحر الشمال، حيث واجهت ألمانيا بريطانيا، واليوم، أصبحت الممرات المائية الأكثر حساسية هي مضيق تايوان، وبحر الصين الجنوبي، وأماكن أخرى تلتقي فيها المصالح الصينية والأمريكية. ويشير الكاتب إلى أنه «ما لم يتغير، وسط كل هذا التطور والثورات، هو أن أوراسيا لا تزال المسرح الرئيسي للأحداث، فهي حيث يعيش معظم سكان العالم وتدور غالبية النشاطات الاقتصادية، حيث تقع أقوى دول العالم – باستثناء الولايات المتحدة – وحيث تتركز المناطق والبحار التي تحدد أعتى الخصومات الجيوسياسية. لهذا السبب، ظل العالم يتقلب ويتشكل من جديد، وكاد أن يُدمّر بالكامل بفعل صراعات مصيرية حول السيطرة على هذه القارة العظمى واستراتيجيات الوصول إليها».
يرى براندز أن «القارة الأوراسية»، بما تحمله من ثروات طبيعية هائلة وقوة صناعية وعسكرية ضخمة، وبما تضمّه من غالبية سكان العالم، هي الجائزة الاستراتيجية الأهم في الصراع الدولي منذ بدايات القرن العشرين. فمنذ عهد القيصر فيلهلم الثاني في ألمانيا مروراً بالاتحاد السوفييتي، وصولاً إلى الصين وروسيا وإيران اليوم، سعت قوى استبدادية إلى السيطرة على قلب هذه القارة لإعادة تشكيل النظام العالمي بما يخدم مصالحها التوسعية.
في المقابل، حاولت القوى البحرية الكبرى، مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة، الحفاظ على التوازن العالمي وجعل العالم آمناً للديمقراطية من خلال منع سيطرة أي قوة واحدة على أوراسيا. ويشير الكتاب إلى أن المواجهات الأمريكية الحالية مع الصين وروسيا وإيران ليست سوى جولة جديدة من لعبة جيوسياسية مستمرة، قد تؤدي في حال نجاح محور هذه القوى إلى فرض نظام دولي بديل يهدد أمن الولايات المتحدة والديمقراطيات الغربية بأسرها.
يُبرز المؤلف أن فهم الجغرافيا الاستراتيجية لأوراسيا يساعد على قراءة أوضح لمسارات الصراع العالمي اليوم. فقد كانت التحولات التكنولوجية في الحروب والأيديولوجيات الإمبريالية السامة سبباً في جعل أوراسيا مركز الجاذبية في السياسة الدولية خلال القرن العشرين. واليوم، ومع صعود قوى استبدادية جديدة وتنامي النزاعات الإقليمية، يزداد تأثير أوراسيا في تحديد ملامح القرن الحادي والعشرين، سواء في الاقتصاد أو الأمن العالمي.

دروس الماضي


قبيل الحرب العالمية الثانية، انشغلت شخصيات متنوعة – من رؤساء أمريكيين إلى مثقفين نازيين – بأوراسيا كمصدر لا مثيل له للموارد والقوة. ومع بداية الحرب الباردة، كانت وثائق التخطيط الأمريكية السرية ملأى بالإشارات إلى هذه الرقعة الجغرافية، باعتبارها المنطقة الحاسمة التي لا يمكن لواشنطن أن تسمح لأي منافس بالسيطرة عليها. هذا المفهوم تسلل إلى أبرز الأعمال الأدبية السياسية في القرن العشرين، ففي رواية جورج أورويل الشهيرة 1984 المنشورة عام 1949، تظهر أوراسيا كقوة شمولية عملاقة غارقة في حرب دائمة، في إشارة لم يكن يحتاج القارئ حينها إلى شرحها.
على مدى أجيال، كان كل من يعرف الشؤون العالمية يدرك أن أوراسيا هي المنطقة المحطمة التي تتصادم فيها الإمبراطوريات. واليوم يعود هذا المفهوم بقوة مع تحوّل أوراسيا مجدداً إلى مركز للتنافس والصراع العالمي. لكن ما الذي يميز «القرن الأوراسي» عن غيره من الحقب؟ فالمعالم الجغرافية للأرض لم تتغير فجأة في عام 1900، ولم يكن القرن العشرون المرة الأولى التي تصبح فيها أوراسيا موضوعاً لخلاف حاد. وكما يشير المؤرخ جون داروين، فإن شخصيات مثل أتيلا، وجنكيز خان، وتيمورلنك، سعت منذ قرون للسيطرة على مساحات شاسعة من أوراسيا. حتى القرون التي سبقت عام 1900 في أوروبا شهدت صراعات دامية، مثل حرب الثلاثين عاماً، والحروب التي أعقبت الثورة الفرنسية. أما في آسيا، فقد عرفت تاريخاً حافلاً بالتوترات والهيمنة الإمبراطورية، وصولاً إلى الدعاية الصينية المعاصرة.
ينقسم الكتاب إلى ستة فصول رئيسية تسبقها مقدمة، يبدأ فيها الكاتب باستعراض رؤية الجغرافي هالفورد ماكيندر حول العالم ودور أوراسيا في تشكيل موازين القوى. ينتقل بعدها إلى فصل «الإعصار الأسود العظيم» الذي يناقش موجات الصراعات العنيفة في القرن العشرين، ثم «الهاوية الشمولية»، حيث يسلط الضوء على صعود الأنظمة الاستبدادية وحروب الإبادة. وفي فصل «العصر الذهبي» يرسم المؤلف ملامح فترة من الازدهار النسبي قبل اندلاع النزاعات الكبرى. أما الفصل الخامس «القرن الأوراسي الثاني» فيتناول عودة الصراع على أوراسيا في العصر الحديث وصعود قوى جديدة تتحدى النظام العالمي القائم. ويختتم الكتاب بفصل «دروس الماضي» الذي يستخلص العبر من قرن من الحروب والتحولات السياسية لتفسير ملامح الصراع العالمي في الحاضر والمستقبل. يؤكد الكتاب أن الصراع على الأراضي الأوراسية لا يزال السمة الحاسمة للسياسة العالمية الحديثة، وأن البوتقة التي صهرت النظام العالمي في القرن الماضي ما تزال مشتعلة حتى اليوم.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق