في الوقت الذي يتركز فيه الاهتمام العالمي على دور الذكاء الاصطناعي التوليدي في تشكيل المستقبل، يكشف ابتكار جديد من شركة (ديب مايند) التابعة لجوجل عن وجه آخر لهذه التقنية، وهي قدرتها على تحسين فهمنا للماضي، وذلك عن طريق فك شيفرات النقوش اللاتينية القديمة وتسريع وتيرة الاكتشافات التاريخية.
فقد تمكن فريق من العلماء في شركة (ديب مايند)، بالتعاون مع خبراء في علم الآثار من جامعات بريطانية ويونانية من تطوير نظام ذكاء اصطناعي جديد، يحمل اسم (Aeneas)، لمساعدة المؤرخين في تفسير النقوش اللاتينية القديمة وتحديد مؤلفيها واستعادتها بكفاءة غير مسبوقة، مما يمثل نقلة نوعية في مجال علم النقوش.
ولكن ما كيف يعمل نظام (Aeneas)، وما النتائج التي حققها، وكيف يمكن أن يغير مستقبل علم النقوش وتاريخه؟
أولًا؛ كيف يعمل نظام (Aeneas)؟
تُعدّ النقوش مصدرًا أساسيًا لفهم الحياة اليومية في الحضارة الرومانية، فقد كانت موجودة في كل مكان، ابتداءً من الآثار الضخمة ووصولًا إلى الأدوات اليومية، وتتضمن هذه النقوش مواضيع متنوعة مثل: الكتابات السياسية، وقصائد الحب، ونقوش القبور، والمعاملات التجارية، مما يوفر رؤى غنية عن العصور القديمة. ومع ذلك، فإن هذه النصوص غالبًا ما تكون متضررة أو مجزأة، مما يجعل مهمة تأريخها وتحديد موقعها أمرًا بالغ الصعوبة بالنسبة للمؤرخين.
وقد اعتمد المؤرخون سابقًا على خبراتهم لتحديد المتشابهات – وهي نصوص تشترك في الصياغة أو البنية أو المنشأ – وهي عملية معقدة وتستغرق وقتًا طويلًا.
لذلك طورت شركة (جوجل ديب مايند) نظام (Aeneas) الذي يستند في عمله إلى الذكاء الاصطناعي التوليدي، بالتعاون مع جامعات بريطانية مثل: جامعة نوتنجهام، و(ووريك) Warwick، وأكسفورد، بالإضافة إلى جامعة أثينا للاقتصاد والأعمال (AUEB)، ليسرّع عمليات البحث والمقارنة، إذ يمكنه استرجاع المتوازيات النصية والسياقية بين آلاف النقوش اللاتينية خلال ثوانٍ، مقارنةً بالعمل اليدوي الذي قد يستغرق شهورًا.
ويحمل نظام (Aeneas)، اسم البطل الأسطوري في ملحمة تأسيس روما، وهو يعتمد في عمله على شبكة عصبية توليدية متعددة الوسائط مصممة لتحليل النقوش اللاتينية المكتوبة خلال مدة زمنية شاسعة تمتد من القرن السابع قبل الميلاد إلى القرن الثامن الميلادي.
وقد دُرب هذا النظام على مجموعة بيانات ضخمة وموثوقة تُسمى مجموعة البيانات النقشية اللاتينية (LED)، التي تضم أكثر من 176,000 نقش لاتيني، وقد جمع المؤرخون هذه المجموعة من سجلات تاريخية على مدار عقود، مثل: قواعد بيانات EDR، و EDH، و EDCS-ELT.
ووصف الباحثون هذا النظام في دراسة نُشرت في مجلة (Nature)، أنه يستخدم الذكاء الاصطناعي التوليدي لاستعادة أوجه التشابه النصية والسياقية في النقوش اللاتينية، كما يستفيد من التفاصيل المرئية المتاحة لتحسين التحليل والتصنيف، وعلاوة على ذلك يمتاز بقدرته على توليد نص افتراضي لملء الفجوات في النقوش، مما يُسهم في فهمها بنحو أفضل.
ثانيًا؛ ما القدرات التي يتميز بها نظام (Aeneas)؟
يتمتع نظام (Aeneas) بقدرات متقدمة تجعله أداة فريدة للباحثين والمؤرخين، تشمل:
- البحث عن المتشابهات: يستخدم النظام تقنية متقدمة لتحويل كل نقش إلى ما يشبه بصمة تاريخية فريدة، مما يمكنه من تحديد الروابط العميقة بين النصوص عبر مجموعة ضخمة من النقوش اللاتينية في ثوانٍ معدودة، ومن ثم يساعد المؤرخين في وضعها في سياقها التاريخي.
- معالجة المدخلات المتعددة الأنماط: يمتاز (Aeneas) بإنه أول نموذج قادر على تحديد المنشأ الجغرافي للنص من خلال استخدام مدخلات متعددة الأنماط، إذ يحلل النصوص إلى جانب المعلومات المرئية مثل صور النقوش، لتقديم تحليل شامل.
- استعادة الفجوات غير المحددة الطول: يمتاز (Aeneas) أيضًا بإنه أول نموذج يمكنه ترميم الأجزاء المفقودة من النصوص حتى عندما يكون طول هذه الفجوات مجهولًا، مما يجعله أداة مرنة للغاية للمؤرخين الذين يتعاملون مع المواد الأثرية الشديدة التلف.
- تعدد الاستخدامات: يمكن تكييف النموذج للعمل مع لغات ووسائط قديمة أخرى، مثل: أوراق البردي والعملات المعدنية، مما يوسع نطاق تطبيقاته ويجعله أداة متقدمة وغير مسبوقة في خدمة البحث التاريخي.
ثالثًا؛ ما مدى فعالية النظام في التجربة الميدانية؟
لتقييم مدى فعالية نظام (Aeneas)، شارك 23 خبيرًا في علم النقوش، من طلاب الماجستير إلى الأساتذة لتجربته ضمن بيئة بحثية محاكية للواقع، إذ طُلب منهم استخدام مخرجات النظام كنقطة انطلاق في مهام بحثية واقعية ومقيدة بوقت محدد. وقد جاءت النتائج مذهلة وتفصيلية:
- الفائدة البحثية: في 90% من الحالات، وجد الخبراء أن المتوازيات التي قدمها النظام كانت نقاط انطلاق مفيدة جدًا لمواصلة أبحاثهم.
- تعزيز الثقة: أدى استخدام النظام إلى تحسين ثقة الباحثين بأداء مهامهم الرئيسية بنسبة بلغت 44%.
- دقة التأريخ: عند تقدير عمر النقوش، حقق النظام نتائج دقيقة بفارق زمني لا يتجاوز 13 عامًا في المتوسط عن التواريخ المثبتة من المؤرخين.
- التفوق المشترك: في مهام ترميم النقوش الجزئية وتحديد مصدرها الجغرافي، كان أداء المؤرخين الذين استعانوا بنظام (Aeneas) أفضل من أداء المؤرخين بمفردهم وأفضل من أداء الذكاء الاصطناعي بمفرده، مما يثبت أنه أداة تعزيزية قوية وليست مجرد بديل.
رابعًا؛ كيف يمكن أن يغير هذا النظام علم النقوش وتاريخه؟
يمكن للنظام أن يُحدث تغييرًا جذريًا في مستقبل علم النقوش وتاريخه من خلال عدة جوانب رئيسية تشمل:
1- تسريع عملية البحث والتحليل
يُعدّ نظام (Aeneas) أداة قوية لتسريع عملية التحليل الأولي للنقوش، فبدلًا من أن يقضي الباحثون شهورًا أو سنوات في تمحيص كم ضخم من الأدلة، يمكن للنظام أن يحدد بسرعة المتوازيات المحتملة والنصوص المشابهة، مما يوفر لهم نقاط انطلاق بحثية مفيدة في وقت قياسي.
2- توسيع نطاق البحث والخبرة:
يُمكن للنظام أن يُحرّر الباحثين من قيود التخصص في مناطق جغرافية أو مدد زمنية معينة، فبفضل قدرته على معالجة كميات ضخمة من البيانات، يستطيع النظام أن يربط بين نقوش من مناطق مختلفة أو مدد زمنية متباينة، مما يتيح للباحثين رؤية واسعة وشاملة.
3- زيادة دقة النتائج:
عندما يعمل الباحثون مع نظام (Aeneas) فإنهم يحققون نتائج أدق مقارنة بالعمل بمفردهم، فقد أظهرت التجارب أن النظام يُحسن من دقة ترميم النقوش الجزئية وتقدير عمرها، مما يؤدي إلى استنتاجات أكثر موثوقية حول النصوص القديمة.
4- تسريع وتيرة الاكتشافات التاريخية:
يستطيع النظام تحديد السمات النصية أو المتوازيات التي قد تغفل عنها العين البشرية، خاصة في النقوش المتضررة. مما يعني أنه يمكن أن يكشف عن معلومات جديدة أو علاقات لم تكن معروفة سابقًا، مما يفتح الباب أمام اكتشافات تاريخية لم تكن في الحسبان.
وتجدر الإشارة إلى أن نظام (Aeneas) ليس بديلًا عن الباحث البشري، بل هو شريك ذكي يُعزّز قدراته، ويُسرّع من وتيرة الاكتشافات، ويُثري فهمنا للتاريخ القديم.
خامسًا؛ كيف يمكن الوصول إلى النظام واستخدامه؟
لضمان تعميم الاستفادة من هذا النظام، أُتيحت نسخة تفاعلية من (Aeneas) مجانًا للجميع، إذ يمكن للباحثين والطلاب والمعلمين وخبراء المتاحف وغيرهم الاستفادة من هذا النظام عبر الموقع الإلكتروني (predictingthepast.com).
وبالإضافة إلى ذلك، نُشر الكود البرمجي ومجموعة البيانات بنحو مفتوح المصدر لدعم الأبحاث المستقبلية في هذا المجال، مما يتيح للمهتمين استكمال العمل والتطوير على هذا الاكتشاف الرائد.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط
0 تعليق