نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
العذراء في لبنان: قبل 1860 بكثير وإلى الأبد, اليوم الاثنين 11 أغسطس 2025 02:09 صباحاً
إني أشهد...
ما حدث لي ليل السبت-الأحد، إنما يحدث بالنسبة إليّ للمرة الأولى. فقد عزمت النية على أن أعود إلى كتاباتي في السياسة، بعد نشر ست مقالات لي، عبر "النشرة"، وتزامنا عبر "جائزة الأكاديمية العربية"، وأيضا بعد الحماوة السياسية على الساحة اللبنانية، على خلفية حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية، وما تلا ذلك القرار الحُكومي من مواقف وأحداث، وصولا إلى استشهاد ستة من ضباط الجيش اللبناني وجنوده...
هكذا استسلمتُ للنوم ليلة السبت، ولكن حدث معي ما لم أتوقعه.
حلمت أولا بأن تبايُنا مهنيا حدث بيني وبين رئيس تحرير "النشرة" الصديق العزيز جوزيف سمعان، وهذا ما لم يحدث في يوم من الأيام... ومن ثم أُوحي إلي بأن كتابة ست مقالات عن "سيدة النجاة" في زحلة، وعن المتحف الملكي، وعن حُضور العذراء الدائم في لبنان... ينبغي أن تُستكمل بمقالة بمثابة خُلاصات انطلاقا مما ورد في هذه المقالات. حتى أنني صحوت من النوم، وعنوان المقالة الأخيرة جاهز: "العذراء في لبنان: قبل 1860 بكثير وإلى الأبد"!.
أهل علم النفس يرون أن ما حدث معي هو عمل "اللاوعي" في داخلي.
وأهل الإيمان يؤمنون بوجوب أن أستكمل ما تبقى من كتاباتي الروحية–التاريخية، ومن ثم يُطلق سراحي للعودة إلى الكتابة السياسية.
وأما أنا فقد عملت بوحي إيماني!.
لا شك أن اللُبنانيين حُرصاء على تكريم السيدة العذراء، وحُضورها الإيماني القوي يتجاوز الحجر إلى الوجدان الإنساني...
ولا شك أيضا أن عين العذراء على لُبنان، تحميه وتُبعد عنه الهلاك، وسط الويلات التي مر بها اللُبنانيون... كما وتسأل العذراء المُؤمنين، والحال لا تنحصر على لُبنان بل على العالم أجمع، بأن يُصلوا ويتوبوا ليَنالوا الخلاص...
وفي العهد الحديث، كما ومنذ القِدَم، رسائل وإشارات من السيدة العذراء في هذا الإطار. وما زال الجنوبيون مثلا، يذكرون "سيدة رميش" التي بكَت دما، في ثمانينيات القرن الماضي، في ظاهرة عجائبية تلتها جولة جديدة من تهجير المسيحيين جنوبا، وويلات عظيمة!.
ولكن في المقابل، بقيت عين العذراء على لُبنان، تقيه الشرور، حتى قيل في تسعينيات القرن الماضي، إن تمثال سيدة لُبنان في حريصا قد تغير تموضعه، ومال بعض الشيء من ناحية إلى أُخرى، في إشارة إلى أن ظل حماية العذراء مريم للبنان، على امتداد رُبوعه...
وحضور مريم عندنا يعود إلى ما قبل العام 1860، وقبل كل الرسائل منها التي أتينا على ذكرها في المقالات الست الآنفة الذكر. لا بل يُرجح أن العذراء لم تترك يوما أرضا مشرقية ترعرعت فيها وهي طفلة...
حكايا قديمة
لقد أوردتُ في كتابي المُعنون "48 ساعة في رأس بعلبك"، نقلا عن العمّ جورج البشراوي، بعضَ العجائبِ الّتي ما زالَ الأخير يذكرُ تفاصيلَها، وقد تمَّت بواسطة "سيّدةِ رأسِ بعلبك" العجائبيّة. هو ينقُل عن المرحومِ أبي نصر ليشع أنّ ثلاثةَ لصوصٍ أدرَكوا موضعَ مفتاحِ حظيرةِ غنمٍ فجاؤوا لسَرقتِها. فتحوا باب الحظيرةِ وانطلقوا بالغنمِ طوَال الليلِ. وحين بزغَ الفجرُ، تبيّنَ لهم أنّهم يطوفون حولَ ديرِ السيّدةِ في رأس بعلبك!. ذُهلوا للأمرِ، وسيطرَ الخوفُ عليهم، وطلبوا مقابلةَ رئيس الدّير للاعتراف له بما حصل. ومِن ثمّ تَركُوا بنادقَهُم الثّلاث في الدّير وعادوا أدراجَهم نادِمين.
وثمّة لصوصٌ سرَقوا محصولَ الذّرةِ من أمامِ دير سيّدة رأس بعلبكّ العجائبية، وذهبُوا بها في اتّجاه وادي فعرا، فجرفَتها السّيول كما جرفت المنازل وقاطنيها وأعادَت المحصولَ كما السّارقينَ إلى موضعٍ يُسمّى "السَّيْل" أمامَ دير السيّدة.
ويكملُ العمّ جورج اليوسف (تيمُّنًا باسم والدِه، وتمييزًا عن غيرِه من حاملي هذا الاسم) شهادتَه الشّخصيّةَ عن حادثةٍ عاصرَها، إذ وافاه شخصان: أحدُهما مُتّهَمٌ وآخر يَشكّ فيه. وطلبا منه أنْ يرافقهما إلى مقام دير السيّدة ليشهدَ على قَسَمٍ في هذا الشّأن. فما كان من العمّ جورج إلاّ أنْ تمنّى على المُتّهمِ عدمَ القسمِ إذا لم يكن صادقًا... ولكنّ القسمَ تمّ بوضعِ كأسِ القربانِ على الرّأسِ، واليد اليُمنى على الإنجيلِ المقدّسِ، وتلاوة نصِّ الحلفان... وبعد فترةٍ وجيزَةٍ ضبطَتْ أجهزةُ الأمنِ العام، صاحب القَسَم، في بلدة "أبلح" متلبّسًا تُهمةَ التّهريبِ.
كما ويَذكرُ حادثةً أخرَى وصلَت إليه عن طريقِ الأقدمين، إذ جاءَ يومًا ثوّارٌ عن طريقِ "العوَينة"، بقصدِ تدميرِ دير السيّدة. كان ذلك قُبيل العام 1914. وما كاد هؤلاء يقتربون من الدّير حتّى ظهرَ لهم غبارٌ وعمّتِ المنطقَةَ ضبابةٌ حاجبةٌ للنّظرِ، وشعروا بأنَّ ثمّةَ ما يُعمي عيونَهم...
وشأنَ زوجِها جورج اليوسف، تذكرُ يوسفيّة "سالفةً" مفادُها أنَّ جنديًّا فرنسيًّا سرَقَ يومًا ساعةً، وأخفاها تحت حجرٍ في منطقةِ "السّيل" بالقربِ من ديرِ السيّدة. وحيثُ إنّ صاحبَ السّاعةِ شكَّ في السّارقِ، وتجادلا في هذا الشّأنِ، قصدا معًا الدّير. وما كاد السّارق يحلفُ بأنَّه لم يسرقْها حتّى ظهرَت السّاعة ووقعت أرضًا من سروالِه!...
ظهور العذراء على شراودولف
ومن علامات سهر السيدة العذراء على لبنان، ومؤشرات هذا الحضور اللافت، ما أعقب تعرُض كاتدرائية السيدة في زحلة للحريق، في القرن التاسع عشر. فقد تواصل مطران زحلة آنذاك مع الكاهنين، طالبا إليهما أن يقصدا النمسا، للمُساعدة في كتابة أيقونة جديدة للسيدة العذراء، تكون شبيهة بتلك التي تعرضت للحريق. وفي تلك الفترة، كانت النمسا، هي الدولة التي تهتم لأمر طائفة الملكيين الكاثوليك في لبنان، أُسوة بالاهتمامات الدولية المُتعددة، بالطوائف الأُخرى...
وأرسل الإمبراطور النمساوي، بطلب الرسام الألماني الشهير في جامعة ميونخ، يوهانس شراودولف، وسأله كتابة أيقونة للسيدة العذراء، فاعتذر شراودولف، على اعتبار أنه لم يسبق له أن كتب أيقونة. وعندها طلب إليه الإمبراطور أن يُفكر في الموضوع، وأمهلَه لذلك 24 ساعة.
ليلا ظهرت السيدة العذراء على الرسام على شكل حلم، وفي اليوم التالي صارَح الرسام الإمبراطور بما رآه في الحلم، مُعلنا أنه "سيُحاول تحقيق ما رآه في الحُلم على قطعة قماش...
وبعد ثلاثة أشهر، أنجز شراودولف كتابة الأيقونة الموجودة الآن في كاتدرائية سيدة النجاة في زحلة!.
أَذهَلت الأيقونة الإمبراطور النمساوي، فقرر أن يخصها بإطار ذهبي ويُرسلها إلى لُبنان.
وصلت الأيقونة من النمسا بحرا إلى بيروت، ومنها إلى زحلة نُقلت بواسطة الدواب والجِمال. وحين وصلت إلى شتورة، بَرَكَ الجَمَل، ولم يعُد يتحرك... وحين بلغ الأمر المطران قال لأَبناء الأبرشية:
-"لماذا تَستغربون؟... إن في الأمر إشارة من السيدة العذراء، وهي تريدُنا أن نستقبل الأيقونة في شتورا".
وهكذا، تشكل وفد كبير من الكهنة، والراهبات، والمؤمنين والكشافة، قصد شتورا. وقد حمل المؤمنون الأيقونة من شتورا، ودخلوا فيها إلى زحلة، في احتفالية شعبية عظيمة. بالأكُف، وعلى ظُهور المُؤمنين، حُملت أيقونة السيدة العذراء، ودخلت زحلة على وقع قرع الأجراس ونثر الورود والأرُز، فيما أضفت رائحة البخور على المكان مشهدية القداسة... وقد حدث ذلك في العام 1861.
الأرشمندريت بو شعيا
يقول الأرشمندريت الدكتور إيلي بو شعيا، أمام وفد من إداريي مدرسة المخلص–بدارو وتربوييها، زاره في زحلة: "... في العام 1840، هاجم زحلة آلاف من الجُنود العُثمانيين لاحتلالها، فكان التدخُل الأول لسيدة النجاة". ويُكمل استنادا إلى أبحاث تاريخية، مُستشهدا بقول لأحد الجُنود المُهاجمين: "... لولا الرماد الكثيف الذي أعمى بَصرنا لكنا احتللنا زحلة".
وقد حدث ذلك في منطقة "كسارة"، ومن هُنا التسمية رمزا لـ"الانكسار" العُثماني بفضل السيدة العذراء.
وبعد عشرين سنة-يُكمل بو شعيا سرده: "أي في العام 1860... كانت الفوضى تسود، وثمة حروب بين المسيحيين والدروز... كما وقرر الأتراك إعادة محاولة احتلال زحلة، وهذه المرة بدلا من عَديد قوامه خمسة آلاف عسكري، قرروا الهُجوم بعشرة آلاف".
وكذلك قرروا عدم المُهاجمة، هذه المرة، عن طريق بيروت –شتورة– زحلة، بل عن طريق الجبل، أي من جبل صنين وبسكنتا... ولم يكن -هذه المرة أيضا– ثمة تكافُؤ عسكري بين عدد المُهاجمين الأتراك والزحليين المُدافعين عن أرضهم الذين كان تعدادهم بالمئات فقط!.
أضاف بو شعيا: "هنا كان تدخل مطران زحلة، الذي جمَع أهالي البلدة وقال لهُم: نسمع بإنجازات يوسف بَيْك كرم العسكرية، وكيف أنه يُسيطر على البلدات في لبنان، بدءا من زغرتا–إهدن، مُرورا بالبترون، فجُبيل وكسروان، ووصولا إلى أعالي المتن"...
وطلب المطران من شابين اثنَيْن من البلدة الاتصال بكرم، علَّه يُؤازر الزحليين في ما يُحضره لهُم العثمانيون"...
ولكن الشابَيْن وقعا في مكيدة أعدها لهُما العثمانيون، بعدما رأوهما في الجبل، إذ ادعى العسكر العثماني أنهم من مُقاتلي يوسف بيك كرم، وأنهم سيصلون إلى المدينة وهم ينشدون التراتيل... وعليه، فقد فُتح الطريق لهُم للدخول، في محلة "الراسية".
كما وكان العسكر التركي يرفع الرايات البيضاء، وعليها شارة الصليب...
وحين بات الأتراك في قلب زحلة أطلقوا العنان لعُدوانهم، فحرقوا المدينة بأكملها. وأول من استُشهد هم أربعة رهبان من دير اليسوعيين، في 18 حزيران 1860.
وقد حرق الأتراك الكنائس الاثنتي عشرة، غير أن "كنيسة السيدة" وحدها نجت من الحريق، ولذا أُطلق عليها منذ ذلك الحين اسم "سيدة النجاة"... وقد رأى الزحليون في ذلك إشارة من السماء، مفادُها أن "السيدة العذراء باقية في زحلة"...
أضاف بو شعيا: "رسالة العذراء مريم، في هذا الإطار، يفهمها الزحليون، على اعتِبار أن نجاة كنيسة السيدة من الحرائق الشاملة والكاملة التي لم يسلم منها منزل، أو دار عبادة، أوكنيسة في زحلة... رسالة من السماء تدعو الزحليين إلى العودة إلى بلدتهم، سريعا ومن دون أي تردُد"...
لقد تيَقن الزحلييون أن السيدة العذراء تنتظر بنيها في "كنيسة النجاة" الناجية من الرماد... وأكثر من ذلك، نشأَت لديهم فكرة تشييد تمثال لسيدة النجاة، على أرض مُطلة من بلدتهم.
وفي العام 1958، زمن "الثورة" في لبنان، بقيت زحلة عصية على امتِداد الأحداث إليها، على رُغم انسحاب تلك الأحداث على كُل البلدات والمناطق اللُبنانية... ما دفع بالمطران أفتيموس يواكيم، إلى جمع الشبيبة لتقديم الشكر إلى العذراء التي لم تدع الحوادث الأمنية تصل إلى زحلة. إن الشُكر بالنسبة إلى سيادته لم يكُن مُقتصرا على زمن الحُروب، بل وينسحب أيضا على "النجاة" من ويلاتها...
وأما التفاصيل، فقد أوردتها في مقالتي المعنونة زحلة: "من رسالة العودة (1860) إلى تشييد تمثال سيدة النجاة".
0 تعليق