نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
رحلة عبر الزمن: اكتشف أصول القهوة التاريخية وقصتها التي غيرت العالم, اليوم الاثنين 11 أغسطس 2025 10:47 صباحاً
البداية: كيف انبثقت شرارة اكتشاف القهوة؟
في مرتفعات إثيوبيا الشاهقة، وتحديداً في منطقة "كافا" التي يُعتقد أن القهوة استمدت اسمها منها، تبدأ حكايتنا. هنا، تتداخل الحقيقة مع الأسطورة في نسيج روائي بديع يجسّد اللحظة الأولى التي أدرك فيها الإنسان سر هذه الثمرة العجيبة. تروي المأثورات الشعبية قصة الراعي الشاب "كَلدي"، الذي لاحظ في أحد الأيام أن قطيع الماعز الذي يرعاه قد أصابه نشاط مفرط وحيوية غريبة بعد أن التهم ثماراً حمراء لامعة من شجيرة برية لم يألفها من قبل. وبدلاً من أن ينام القطيع ليلاً، أخذ يقفز ويرقص في حالة من المرح الصاخب الذي أثار دهشته. دفعه الفضول الممزوج بالحذر إلى أن يقطف بعضاً من هذه الثمار ويتذوقها بنفسه. وما هي إلا لحظات حتى شعر بيقظة ذهنية غير مسبوقة وطاقة لم يعهدها في جسده من قبل، وكأن حجاب النعاس قد انقشع عن عقله تماماً. هرع كَلدي إلى شيخ الدير القريب منه، حاملاً معه هذه الثمرات السحرية، لكن الشيخ، في بادئ الأمر، نظر إليها بعين الريبة والشك، معتقداً أنها من عمل الشيطان، وألقى بها في النار بنفور. وهنا، وقعت المعجزة الثانية؛ فما إن لامست حبات البن الجمر المتقد حتى بدأ عبقٌ فوّاح لم يُشم مثله من قبل يملأ أرجاء المكان، رائحة دافئة وجذابة استمالت الرهبان. لقد كانت تلك هي اللحظة الأولى التي حُمّصت فيها القهوة، فانبثق منها عطر سماوي دفعهم لانتشال الحبات المتفحمة من النار، وسحقوها ثم أذابوها في الماء الساخن ليصنعوا أول فنجان قهوة في التاريخ. مشروبٌ ساعدهم على السهر طويلاً في صلواتهم وتعبدهم، ليصبح بذلك وقود الروح قبل أن يكون وقود العقل. وبعيداً عن ضفاف الأسطورة، ترسو بنا سفينة التاريخ عند شواطئ الحقيقة الأنثروبولوجية التي تشير إلى أن قبائل "الأورومو" الإثيوبية كانت أول من عرف قيمة البن، ليس كمشروب، بل كمصدر للطاقة. لقد كانوا يطحنون حبات البن ويمزجونها بالدهن الحيواني ليصنعوا منها كرات صغيرة، أشبه بألواح الطاقة القديمة، يتزودون بها في رحلاتهم الطويلة وحروبهم، مانحةً إياهم القوة والقدرة على التحمل. سواء كانت قصة اكتشاف القهوة أسطورة شاعرية أم حقيقة عملية، فإن المؤكد أن شرارتها الأولى قد انطلقت من تلك الربوع الإفريقية الخضراء.
اليمن: البوابة المقدسة ونقطة انطلاق رحلة القهوة عبر التاريخ
إذا كانت إثيوبيا هي مهد القهوة الأول، فإن اليمن السعيد هو الحضن الذي ترعرعت فيه، والمختبر الذي حوّلها من ثمرة برية إلى مشروب حضاري، ومنه انطلقت لتغزو العالم. عبر مضيق باب المندب، ذلك المعبر المائي الذي يفصل بين القارتين، عبرت حبة البن رحلتها التأسيسية من إفريقيا إلى شبه الجزيرة العربية في القرن الخامس عشر. وهنا، في التربة اليمنية الخصبة والمدرجات الجبلية الشاهقة، وجدت شجرة البن بيئتها المثالية لتنمو وتزدهر. لم تعد القهوة مجرد ثمرة تُطحن مع الدهن، بل خضعت لعملية تحول جذرية. لقد كان اليمنيون أول من زرع البن على نطاق تجاري، والأهم من ذلك، أول من قام بتحميص الحبوب وسحقها وغليها لصنع المشروب الذي نعرفه اليوم باسم "القهوة". وارتبط تاريخها في اليمن ارتباطاً وثيقاً بالمتصوفين ورجال الدين. ففي حلقات الذكر والخلوات الروحانية الطويلة، وجد هؤلاء المتبتلون في القهوة معيناً لهم على السهر والعبادة، وأطلقوا عليها اسم "خمرة الصالحين"، معتبرين إياها هبة إلهية تساعدهم على البقاء في حضرة الله. ومن زوايا الصوفيين، تسربت القهوة إلى عامة الناس، وأصبح ميناء "المخا" اليمني الشهير المركز العالمي الأول والوحيد لتصدير البن لقرون طويلة، حتى إن اسم "موكا" أصبح مرادفاً للقهوة عالية الجودة في جميع أنحاء أوروبا. لقد احتكر اليمن سر هذه الزراعة الثمينة بصرامة شديدة، ومنع تصدير أي حبة بن غير محمصة أو مغلية لضمان عدم قدرة أي أحد على زراعتها في مكان آخر، محافظاً بذلك على كنزه الاستراتيجي الذي درّ عليه ثروات طائلة. لقد كانت اليمن هي المنصة التي انطلقت منها رحلة القهوة عبر التاريخ، نقطة تحول جوهرية في أصول القهوة التاريخية صاغت مستقبل هذا المشروب إلى الأبد.
تاريخ انتشار القهوة: كيف غزت حبة البن الشرق الأوسط وأوروبا؟
من ميناء المخا الحصين، بدأت حبة البن رحلتها المظفرة لغزو العالم، حاملةً معها ثقافة جديدة. كانت محطتها التالية هي المراكز الحضرية الكبرى في الشرق الأوسط. بحلول القرن السادس عشر، كانت القهوة قد رسخت وجودها في مكة والقاهرة ودمشق، ووصلت إلى أوج مجدها في إسطنبول، عاصمة الإمبراطورية العثمانية. هناك، لم تكن مجرد مشروب، بل أصبحت جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والسياسي، حتى تم إنشاء منصب "قهوجي باشي" (كبير صانعي القهوة) في قصر السلطان. ثم جاء دور أوروبا. عبر التجار الفينيسيين الذين كانت لهم علاقات تجارية وطيدة مع الشرق، وصلت القهوة إلى القارة العجوز في القرن السابع عشر. في البداية، قوبلت بالريبة والشك، حتى أطلق عليها بعض رجال الدين "الاختراع المر للشيطان" بسبب أصولها الإسلامية. وتقول الروايات إن الأمر وصل إلى البابا كليمنت الثامن، الذي طُلب منه تحريمها، لكنه بعد تذوقها، أعجب بها كثيراً لدرجة أنه "عمّدها" مجازياً، معلناً أنها مشروب مسيحي أيضاً. هذه اللفتة فتحت الباب على مصراعيه لانتشارها. سرعان ما انتشرت من إيطاليا إلى إنجلترا وفرنسا وهولندا، حيث لعب الهولنديون دوراً محورياً في كسر احتكار العرب بزراعتها بعد أن تمكنوا من تهريب شتلات من اليمن وزراعتها في مستعمراتهم في جاوة وسيلان. لقد كان تاريخ انتشار القهوة فصلاً دراماتيكياً مليئاً بالمكائد والمغامرات والتحولات، حيث تحولت حبة منبوذة إلى ظاهرة عالمية لا يمكن الاستغناء عنها.
ثورة المقاهي: أكثر من مجرد مشروب، مركز ثقافي واجتماعي
مع انتشار القهوة، وُلدت ظاهرة جديدة غيرت وجه المجتمعات إلى الأبد: "بيت القهوة" أو المقهى. هذه المؤسسات لم تكن مجرد أماكن لتقديم مشروب، بل كانت مسارح للحياة العامة، ومختبرات للأفكار الجديدة. في لندن، أُطلق على المقاهي اسم "جامعات البنس" (Penny Universities)، حيث كان يمكن لأي شخص مقابل بنس واحد أن يجلس ويستمع إلى نقاشات ألمع العقول في الأدب والسياسة والعلوم، وقد نشأت مؤسسات عملاقة مثل بورصة لندن للتأمين "لويدز" من رحم هذه المقاهي. وفي باريس، أصبحت المقاهي مثل "لو بروكوب" ملتقى الثوار والفلاسفة والمفكرين أمثال فولتير وروسو وديدرو، الذين أشعلوا شرارة عصر التنوير والثورة الفرنسية بين جدرانها المفعمة برائحة البن والنقاشات الحامية. أما في العالم الإسلامي، فكانت المقاهي مراكز للتجارة، ورواية القصص، ولعب الشطرنج، وحتى عقد الصفقات السياسية. لقد خلقت القهوة فضاءً عاماً جديداً، مكاناً ديمقراطياً يلتقي فيه الناس من مختلف الطبقات لتبادل الأخبار والأفكار، على عكس الحانات التي كانت مرتبطة بالسكر والضوضاء. لقد عززت القهوة اليقظة والمنطق، مما جعل المقاهي بيئة مثالية للابتكار الفكري والاجتماعي. وبهذا، لم تكن القهوة مجرد محفز كيميائي للعقل، بل كانت محفزاً اجتماعياً للحضارة نفسها.
أصول القهوة التاريخية في فنجانك اليوم
والآن، وبعد هذه الرحلة الطويلة عبر القارات والقرون، نعود إلى اللحظة الحاضرة. ذلك الفنجان الذي بين يديك ليس مجرد ماء وحبوب محمصة؛ إنه خلاصة آلاف السنين من الأساطير والمغامرات والتجارة والثورات. في كل رشفة، هناك همس من أسطورة الراعي "كَلدي"، وعبق من روحانية المتصوفين في اليمن، وضجة من نقاشات المفكرين في مقاهي أوروبا، وأصالة من تقاليد الضيافة في مجالسنا العربية حيث للدلة والفنجان طقوسهما الخاصة التي تعبر عن الكرم والاحترام. واليوم، أصبح استكشاف هذا الإرث العريق أسهل من أي وقت مضى؛ فبفضل التطور الهائل في ثقافة القهوة، يمكن للمرء أن يكتشف مختلف أنواع محاصيل قهوة من شتى بقاع الأرض، أو حتى الحصول على بوكس قهوة مصمم بعناية ليأخذه في رحلة تذوق عبر القارات. وهو الإرث الذي تحمله اليوم أماكن متخصصة، حيث يمكن لعشاق هذا المشروب في محمصة ويبرو أو غيره من المتاجر الرائدة، أن يجدوا هذا التاريخ معبأً في كل كيس. إن أصول القهوة التاريخية حية في كل حبة بن، تروي لنا خلاصة طريق القهوة من اليمن إلى بقية العالم وإرثها المستمر. وفي المرة القادمة التي تستمتع فيها بقهوتك، تذكر أنك لا تحتسي مشروباً فحسب، بل تشارك في طقس عالمي عريق، وتستحضر إرثاً إنسانياً لا يزال يكتب فصوله حتى يومنا هذا.
يمكنك مشاركة الخبر علي صفحات التواصل
أخبار متعلقة :