الوجع الصامت: تأملات في الأوقات العصيبة

صوت الامة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الوجع الصامت: تأملات في الأوقات العصيبة, اليوم الأحد 8 يونيو 2025 06:41 مساءً

قال فيودور ديستويفسكي: "الذي اختار الصمت سبق أن قال كل شيء".. قبل سنوات، زرت صديقي في مستشفى الأمراض العقلية، حيث الجدران البيضاء، والضوء الساطع يجرح العينين، وصمت يثقل الأجواء. كانت عيناه تنطقان بألم لا يُقاس، وصمته يتحدث بلا صوت. كل كلمة بقيت بين السطور كانت تُثقل المكان، ويداه المرتجفتان أبلغ من أي حديث.

 

مرّت في خاطري عبارات قاسية مكتوبة على جدران المصحّات، صرخات معلّقة لا تُسمع، مثل: "أروع مكان زرته في حياتي 'المنزل'، سأعود إليه العام المقبل".

 

حنين يقتلع الروح، وشوق لحياةٍ فُقدت. في تلك الكلمات تختزل الوحدة العميقة، حيث يختلط الشعور بالعزلة مع الرفض والحرمان من الحنان والحرية.

 

تقول عبارات أخرى: "أنت هنا.. لا أحد في الخارج يريدك"، و"من أنتم لتضعوني هنا؟".

 

صرخات تنبع من روحٍ محاصرة، تُنازع الوجود ذاته، تبحث عن معنى وسط الظلام. كان ذلك الصمت أبلغ من أي كلام، يتحدث عن وجع الإنسان حين يُحاصر وحيدًا.

 

رنّ في داخلي صوت ألبير كامو حين كتب في تأملاته: "في عمق الشتاء، تعلّمت أخيرًا أن في داخلي صيفًا لا يُقهر"، فالظلام مهما طال لا يُخمد نار الأمل، والليل مهما امتد لا يمنع بزوغ فجر جديد.

 

الأوقات الصعبة ليست لحظات وجع عابرة، بل هي لحظات صدق تُعرّي الروح، وتُسقط الأقنعة الزائفة، وتكشف الإنسان كما هو. الألم ضيف لا مفر منه، أما المعاناة فهي خيار: إمّا أن نغرق فيها، أو نحولها إلى أجنحةٍ تحملنا نحو فضاءات أرحب.

 

في تلك الغرفة البيضاء، رأيت في صديقي صبر النفس، وعمق الرحمة التي يحتاجها الإنسان لنفسه قبل غيره. عادت إلى ذهني عبارة تقول: "الدموع هي اللغة التي لا يستطيع القلب أن ينطق بها." كانت دموعه صامتة، لكنها أكثر بلاغة من أي خطاب.

 

وهنا تتجلى الحقيقة في قول الله تعالى: ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا﴾، فكما تشرق الأرض بعد الظلمات، ينبعث الإنسان من أوجاعه إلى نورٍ لا يُطفأ. كل كلمة بقيت بين السطور ترسم طريقًا نحو الشفاء، وتمنح الصمت معنى جديدًا. فالسؤال ليس في الألم ذاته، بل فيما نفعله به، وما نستخرجه من عمقه حين يطرق بابنا.

 

وفي عالمنا المجهد، حيث ما زال المرض النفسي يُعامل أحيانًا كوصمة، لا كحالة إنسانية تستحق الرعاية، تظهر الحاجة الماسّة إلى مراجعة نظرتنا، لا إلى المريض فحسب، بل إلى مكان علاجه أيضًا. إنها دعوة صادقة إلى مستشفيات الأمراض العقلية: أن تكون أكثر من جدران وسرائر؛ أن تصبح مواطن للرحمة، ومساحات للضوء، حيث لا يشعر الإنسان أنه منفيّ عن الحياة، بل مرحَّب به في حضن من الرعاية والكرامة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق