رغم الزخم العالمي المتزايد حول تطبيقات الذكاء الاصطناعي (AI) في القطاع المالي، لا تزال الأنشطة المالية غير المصرفية في مصر تخطو بشكل حذر تجاه تبني هذه التكنولوجيا الثورية.
وبينما تُظهر بعض الشركات انفتاحًا على الدمج التدريجي للتقنيات الذكية، يظل التطبيق الفعلي محدودًا، وتظل تحديات البنية التحتية والتشريعات والكوادر البشرية عائقًا رئيسيًا أمام التحول الكامل.
وتبذل الهيئات التنظيمية، وعلى رأسها الهيئة العامة للرقابة المالية والبنك المركزي المصري، جهودًا ملموسة لإصدار أطر تشريعية تنظم استخدام الذكاء الاصطناعي، خاصة في ظل تزايد اعتماد الشركات على أدوات التحول الرقمي.
قال أحمد أسامة، العضو المنتدب لشركة درايف للتمويل الاستهلاكي، إن البنية التحتية والتشريعية في مصر باتت مهيأة لاستقبال تطبيقات الذكاء الاصطناعى .. لكن التحدي الحقيقي يكمن في طريقة التفكير وتعاطي الكوادر البشرية مع هذه التقنيات.
وأوضح أن الذكاء الاصطناعي لا ينبغي النظر إليه باعتباره تهديدًا للوظائف أو بديلاً للبشر، بل كأداة لتطوير منظومة العمل وزيادة كفاءة اتخاذ القرار داخل الشركات.
أشار أسامة، إلى أن المنتدى الأخير الذي نظمته الهيئة العامة للرقابة المالية أظهر بوضوح الاهتمام المتزايد من جانب الهيئة بوضع إطار تشريعي ينظم استخدام التكنولوجيا المالية، ويضمن حماية حقوق جميع المتعاملين في السوق، من صغار المستثمرين إلى حملة السندات.
أضاف أن قطاع التمويل الاستهلاكي يعد أحد أكثر القطاعات المالية تقدمًا في تبني أدوات الذكاء الاصطناعي، بحكم اعتماده على عدد كبير من العمليات اليومية وأعداد ضخمة من العملاء، مقارنة بقطاعات أخرى مثل التمويل العقاري أو التأجير التمويلي التي تتعامل مع صفقات أكبر حجمًا.
وأوضح أن بعض الشركات الصغيرة والمتوسطة العاملة في القطاع بدأت بالفعل استخدام نماذج مبتكرة لمنح الائتمان، خاصة لتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة، متوقعًا أن تظل القطاعات التي تعتمد على تذاكر تمويلية كبيرة، مثل التمويل العقاري والتأجير التمويلي، أقل سرعة في التحول الرقمي خلال الفترة القريبة.
وأكد أسامة أن عددًا من الشركات العاملة في مجال التمويل الاستهلاكي بدأت بالفعل الاعتماد على أدوات الذكاء الاصطناعي لتقييم الجدارة الائتمانية للعملاء، من خلال نماذج تمنح تقييمًا مبدئيًا أو “Initial Scoring” قبل اتخاذ القرار النهائي، مع استمرار الاعتماد على بيانات أخرى مثل سجل العميل في الشركة وتقييم الـ “آي سكور”.
وأطلقت الهيئة العامة للرقابة المالية مختبرها التنظيمي لشركات التكنولوجيا المالية الشهر الماضي ، للعمل على تطوير تلك المنظومة في مصر، وهو المختبر التنظيمي الثاني بعد المختبر الذي أطلقه البنك المركزي .
ومع ذلك، يرى بعض الخبراء أن السوق المصري لا يزال متأخرا نسبيًا مقارنةً بدول مثل الهند أو الصين، التي سبقت في وضع معايير تنظيمية وتشغيلية لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الأنشطة المالية.
الهلالي: غياب التشريعات والمعايير التنظيمية وضعف البنية المعلوماتية .. أبرز التحديات
وقالت هناء الهلالي، العضو المنتدب لشركة الخير للتمويل متناهي الصغر، إن مصر لا تزال متأخرة نسبيًا في تنظيم استخدامات الذكاء الاصطناعي مقارنة بدول أخرى، رغم الجهود الواضحة من البنك المركزي المصري والهيئة العامة للرقابة المالية، لإصدار تشريعات ومعايير فنية تواكب التطورات العالمية في هذا المجال.
أضافت أن ثمة ثقة كبيرة في أن الأطر التنظيمية الخاصة بالذكاء الاصطناعي ستصدر قريبًا، لتبدأ الجهات المصرفية وغير المصرفية في تسخير التطبيقات الذكية في الأعمال والاستثمار وصناعة التمويل بشكل أوسع وأكثر فعالية.
وأشارت الهلالي إلى وجود عدة تحديات تعوق تسريع تبني الذكاء الاصطناعي داخل السوق المصرية، أبرزها غياب تشريعات ومعايير تنظيمية واضحة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الأنشطة المالية، وضعف البنية التحتية المعلوماتية وبرامج التشغيل.
يضاف إلى ذلك ارتفاع تكلفة التطبيقات والأنظمة الذكية، ونقص الكوادر البشرية المؤهلة، والحاجة إلى برامج تدريب مستمر، وارتفاع تكاليف التشغيل والصيانة للبرمجيات المعتمدة على الذكاء الاصطناعي.
أكدت الهلالي، أن بعض الشركات بدأت بالفعل تطبيق التمويل الرقمي، خاصة في مجالات التمويل الاستهلاكي من خلال منصات إلكترونية، أو عبر المحافظ الإلكترونية التابعة لشركات المحمول، بالإضافة إلى شركات مثل “كونتكت” وبعض الجهات الحاصلة على تراخيص للتمويل الرقمي.
لكنها شددت على أن تلك التطبيقات لا تزال تقتصر على أدوات الاستعلام الائتماني التقليدي أو الرقمي، ولم تصل حتى الآن إلى استخدام فعلي للذكاء الاصطناعي في تقييم العملاء أو اتخاذ قرارات الإقراض، على غرار ما يتم في أسواق مثل الصين، والهند، وبنجلاديش، والأردن، وعدد من دول أمريكا اللاتينية وجنوب أفريقيا.
وكشفت الهلالي، أن شركتها لا تزال تعتمد على النظم الورقية التقليدية في عمليات الاستعلام واتخاذ قرارات الإقراض، لكنها بدأت فعليًا دراسة خطة تطوير شاملة تشمل إدخال الذكاء الاصطناعي ضمن أنظمة تقييم العملاء، وتحديث البنية التحتية المعلوماتية، وتدريب العاملين لرفع كفاءتهم في التعامل مع الأدوات الذكية، وذلك بهدف تحسين الأداء وخفض تكاليف التشغيل.
وحول تأثير الذكاء الاصطناعي على العمالة، أوضحت الهلالي أن الشركة لم تقم بأي تقليص في أعداد الموظفين حتى الآن، لكن من المؤكد أن إدخال هذه التقنيات سيؤثر مستقبلاً على طبيعة الوظائف المطلوبة.
وتابعت:” الذكاء الاصطناعي لن يغير فقط آليات العمل داخل الشركات، بل سيعيد تشكيل صناعات كاملة، وسيسهم في تقليص البيروقراطية، وربما يؤدي في النهاية إلى تراجع الطلب على الصناعات الورقية والطباعة”.
لكن خبراء بالقطاع المالي غير المصرفي يرون أن دخول الذكاء الاصطناعي للأنشطة يختلف بحسب قيمة التمويلات وعدد العملاء، إذ يشهد التمويل الاستهلاكي، الزخم الأكبر في عدد العملاء بأحجام تمويلات منخفضة مما شجع الشركات على إدخال التقنية الجديدة على النشاط بشكل أكبر.
بينما في قطاعات التمويل العقاري والتأجير التمويلي والتخصيم، فإن الشركات تتجه نحو الاحتفاظ بالورقيات والطرق التقليدية تخوفا من مخاطر الذكاء الاصطناعي.
وبعيدًا عن التصور السائد بأن الذكاء الاصطناعي سيحدث قفزة فورية في نماذج الأعمال، يرى خبراء تلك الأنشطة، أن التطور في هذا المجال سيكون تدريجيًا، وأنه سيمر بمراحل اختبار وتجريب قبل الوصول إلى مستويات متقدمة من الاعتماد الكامل.
جامع: التأجير التمويلي يترقب التطبيقات المستقبلية لتسريع التقييم وتحليل البيانات
قال موفق جامع العضو المنتدب لشركة العربي الأفريقي للتأجير التمويلي، إن إدخال الذكاء الاصطناعي في نماذج الأعمال داخل الأنشطة المالية غير المصرفية لا يمكن اعتباره تحوّلًا لحظيًا أو جاهزية مطلقة، بل هو مسار تدريجي يشبه تطور أي تكنولوجيا جديدة تبدأ بتطبيقات بسيطة ثم تتطور مع مرور الوقت.
وأوضح أن التكنولوجيا عندما تدخل سوقًا ما، تبدأ كفكرة جديدة ثم تتحول إلى ممارسة معتادة بمرور الوقت، مشيرًا إلى أن أجهزة الصراف الآلي كانت تمثل شيئًا غريبًا في بداياتها، لكنها أصبحت اليوم جزءًا من التعاملات اليومية لجميع الفئات المجتمعية.
وأضاف جامع أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي والرقمنة أصبحت مطلبًا رئيسا من مساهمي الشركات أنفسهم، إذ يدفعون في اتجاه تطوير البنية التكنولوجية لضمان القدرة على البقاء في سوق شديد التنافسية، مشيرًا إلى أن أنظمة العمل الداخلية لم تعد مجرد قواعد بيانات، بل أصبحت أكثر تفاعلية وذكاءً في التعامل مع الموظفين والعملاء.
وأكد أن طبيعة منتجات التأجير التمويلي تحد من تسريع التحول الرقمي مقارنة مع الأنشطة الأخرى مثل التمويل الاستهلاكي، بسبب تركيز القطاع على العملاء من الشركات وليس الأفراد، وهو ما يقلص فرص تطبيق أدوات الذكاء الاصطناعي والرقمنة المرتبطة بسلوك المستهلك أو الأنظمة التفاعلية.
وأشار إلى أن حجم الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في قطاع التأجير التمويلي لا يتجاوز 1% حتى الآن، وهو ما يعني أن المجال لا يزال مفتوحًا على مصراعيه لتطبيقات مستقبلية يمكن أن تسهم في تسريع التقييم واتخاذ القرار وتحليل البيانات.
وأوضح جامع أن التحديات الحقيقية التي تواجه شركات التأجير التمويلي لا تتعلق فقط بالتكنولوجيا، بل تمتد إلى ما وصفه بـ”قواعد اللعبة”، وعلى رأسها القدرة على تأمين التمويل من البنوك أو المساهمين لتمويل عمليات التأجير.
وأشار جامع، إلى أن استخدام الذكاء الاصطناعي في نماذج التقييم الائتماني داخل التأجير التمويلي لا يزال محدودًا للغاية، نظرًا لأن أغلب العملاء من الشركات وليس الأفراد.
وأوضح أن هناك جهودًا حالية لتوظيف الذكاء الاصطناعي في قراءة وتحليل المذكرات الائتمانية، إلى جانب تقنيات المحاكاة التي تتيح فهماً أعمق للسلوك الائتماني.
أخبار متعلقة :