إلى الحدّ الأقصى، رفع "حزب الله" سقف خطابه في الأيام الأخيرة، بعد جلستي الحكومة في الخامس والسابع من آب، رفضًا لفكرة تسليم السلاح، واعتبار أيّ طلب من هذا النوع بمثابة "خدمة مجانية لإسرائيل"، فتناوب قياديّوه ونوابه على الكلام بوتيرة لم يألفها الحزب في معظم المحطات، حيث كانت استراتيجيته الإعلامية تقوم فيها على "الصمت" في أقسى الظروف وأصعبها، وحصر الموقف السياسي بأمينه العام.
بهذا المعنى، فإنّ موقف رئيس كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب محمد رعد، حين وصف تسليم السلاح بـ"الانتحار"، لم يكن مجرّد ردّ فعل انفعالي على قرارات الحكومة الأخيرة، بل جاء كجزء من مسار تصاعدي في خطاب "حزب الله" منذ إقرار مجلس الوزراء أهداف "الورقة الأميركية"، وتكليف قيادة الجيش إعداد خطة عملية لنزع السلاح من خارج إطار الدولة، رغم اعتراض الوزراء الشيعة، وخروجهم من الجلسة.
ولعلّ هذا الموقف، بما يحمله من لهجة حاسمة ورسائل مركّبة، يكشف أن الحزب يستعدّ لمرحلة مواجهة طويلة، يختلط فيها البُعد السياسي بالبُعد الأمني، مع حسابات دقيقة للداخل والخارج، فإلى أيّ مدى يمكن أن يمضي في المواجهة المستجدّة مع الدولة، علمًا أنّه لا يزال حتى الساعة يعمل على احتواء الشارع وضبطه، وحصر التحركات الرمزيّة التي يقوم بها بعض المحسوبين عليه في بعض المناطق، في خانة "العفويّة" ليس إلا؟!.
في المبدأ، لا شكّ أنّ جلسات الحكومة الأسبوع الماضي لم تكن مجرّد محطّة إجرائية، بل لحظة مفصلية في مسار ملف السلاح، فالبيان الذي أقرّته الحكومة ليس سوى ترجمة سياسية لمسار دولي متدرّج يهدف إلى إعادة صياغة قواعد اللعبة في لبنان، بما يشمل إعادة تعريف دور الجيش وتحديد سلطته على كامل الأراضي اللبنانية، فضلاً عن كونه شكّل أول خطوة على طريق تنفيذ مبدأ "حصر السلاح بيد الدولة" الوارد في البيان الوزاري.
في المقابل، قرأ "حزب الله" في هذه الخطوة إشارة إلى بدء مسار عملي يستهدفه مباشرة، ولو بغطاء مؤسسي. ولذلك، تحرّك الحزب سريعًا على خطّين متوازيين: الأول، تعبئة القاعدة الشعبية والسياسية بخطاب مرتفع النبرة يذكّر بأن السلاح هو "جوهر" وجوده وأساس قوة المقاومة؛ والثاني، إرسال رسائل محسوبة إلى كلّ من يعنيه الأمر بأن أي محاولة لفرض نزع السلاح بالقوة أو تحت ضغط خارجي ستقابل بالتصعيد.
مع ذلك، يرى العارفون أنّ الخطاب العالي السقف للحزب يتجاوز الساحة اللبنانية. فالإشارة إلى "الانتحار" لا تستهدف فقط الداخل، بل تُقرأ في عواصم القرار على أنها تحذير من كلفة أي مغامرة عسكرية أو سياسية في هذا الملف. ويكتسب هذا التحذير بعدًا إضافيًا في ظل الوضع الإقليمي المشتعل: استمرار الخروقات الإسرائيلية، المفاوضات المتعثّرة في ملفات إقليمية، والتجاذبات الإيرانية–الأميركية التي تجعل من لبنان ورقة م ساومة أو ضغط.
في هذا السياق، يصبح خطاب "حزب الله" جزءًا من لعبة الرسائل المتبادلة بين طهران وواشنطن، حيث يحرص الحزب على التأكيد أن أي مساس بسلاحه لن يمرّ من دون ردّ، وأنه يحتفظ بخيارات مفتوحة على المستويين السياسي والميداني. وهو يقول بما معناه أنه حتى لو صحّ أنّه يمرّ بمرحلة "مراجعة" بعد الحرب الأخيرة، فهذا لا يعني جاهز لتقديم تنازلات مجانية جوهرية تخصّ أساس وجوده، من نوع تسليم السلاح.
لكن على الرغم من النبرة التصعيدية، لا يبدو أن "حزب الله" في وارد اتخاذ خطوات ميدانية فورية، بعيدًا عن التحركات المصنّفة "عفوية"، والتي تخدم إيصال الرسائل الرمزية في مكانٍ ما. فالمعلومات المتوافرة تشير إلى أن الحزب يفضّل الانتظار حتى صدور تقرير قيادة الجيش حول خطة نزع السلاح، ليس بالضرورة من أجل معرفة مدى جدّية الحكومة في تنفيذ الخطة، ولكن لأنّ استراتيجية "إدارة الوقت" قد تكون الخيار الأمثل بانتظار تغير المعادلات الإقليمية.
لا يعني ما تقدّم أنّ السيناريو الآخر، الدخول في مواجهة، مُستبعَد بالمطلَق، سواء كانت مواجهة سياسية مباشرة داخل المؤسسات، وتحديدًا في الحكومة التي يبدو التضامن داخلها مهدَّدًا، أو حتى في الميدان إذا شعر الحزب أن هناك محاولة لفرض النزع بالقوة، كما حصل في 7 أيار. هنا، يخشى البعض من فكرة الصدام مع الجيش، وإن كان الحزب يدرك أن أي خطوة من هذا النوع ستضعه في مواجهة داخلية شاملة قد لا تكون لمصلحته في المدى الطويل.
في كلّ الأحوال، يبدو أنّ "حزب الله" يواجه معضلة حقيقية، حيث يرى كثيرون أنّ أي تصعيد ميداني سيعرّضه لعزلة أوسع، وربما لعقوبات أشد، فيما أي تراجع كبير قد يُفسَّر كتنازل استراتيجي. لذلك، يعتقد هؤلاء أن الحزب يسعى لإبقاء المواجهة في إطارها السياسي والإعلامي قدر الإمكان، فيما، يراهن خصومه على أن الضغط الدولي والاقتصادي قد يدفع الحزب في النهاية إلى قبول تسوية تُنظّم ملف السلاح ضمن اتفاق شامل.
في النتيجة، رفع "حزب الله" سقف المواجهة في الأيام الأخيرة، لكن المسار الفعلي للصراع لم يتضح بعد، بمعنى أنّ ما يجري اليوم هو أشبه بمرحلة "اختبار الإرادات"، حيث يسعى كل طرف لمعرفة مدى استعداد الآخر للذهاب بعيدًا. فالحكومة تراهن على دعم دولي وخطة مؤسسية بقيادة الجيش، فيما يراهن الحزب على الوقت، وعلى أن أي محاولة لفرض الأمر الواقع ستصطدم بعقبات داخلية وخارجية.
وبالتالي، فإنّ الأسابيع المقبلة ستكون حاسمة في تحديد المسار: هل سيبقى الاشتباك سياسيًا تحت سقف المؤسسات، أم أن لبنان مقبل على مواجهة أوسع قد تخلط الأوراق في الداخل والإقليم؟ في الحالتين، يبدو أن ملف السلاح دخل مرحلة جديدة، حيث لم يعد ممكنًا فصله عن الصراعات الإقليمية الكبرى، ولا عن إعادة رسم ملامح الدولة اللبنانية نفسها.
أخبار متعلقة :