أصبحت مسألة تسليح الصين للمعادن النادرة، نقطة اشتعال رئيسية في مفاوضات التجارة بين الولايات المتحدة والصين.
هذه المواد الحيوية، لا سيما المغناطيسات عالية الأداء التي تتيح تصنيعها، تمثل مكوناً أساسياً في السيارات الكهربائية وتوربينات الرياح والروبوتات الصناعية وأنظمة الدفاع المتقدمة.
وفي مواجهة القيود الصارمة التي تفرضها بكين على صادرات المعادن النادرة، خفضت الولايات المتحدة بهدوء الرسوم الجمركية، وقلصت قيود التصدير على شرائح الذكاء الاصطناعي، وخففت قيود التأشيرات على الطلاب الصينيين.
في الوقت نفسه، تسابق واشنطن، الزمن لتأمين إمدادات بديلة.
ففي يوليو، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية عن حزمة استثمارية تاريخية بمليارات الدولارات لدعم شركة “إم بي ماتريليز”، المطور الرئيس لمشروع المعادن النادرة الأمريكي.
لكن .. ماذا لو لم تستطع الولايات المتحدة، رغم الدعم الضخم والجهود الممتدة لسنوات، التخلص من اعتمادها على المعادن الأرضية النادرة الصينية؟
تجربة اليابان تقدم درساً تحذيرياً.
ففي عام 2010، وبعد مواجهة بحرية حول جزر سينكاكو، أوقفت الصين فجأة صادرات المعادن النادرة إلى اليابان.
وردت طوكيو بسلسلة من الإجراءات الاستراتيجية، شملت الاستثمار في شركة “ليناس رير إيرثز” الأسترالية، وتعزيز البحث والتطوير المحلي في مجالي إعادة التدوير والبدائل، وإبرام شراكات تجارية مع مصنعي المغناطيسات الصينيين، وبناء مخزونات استراتيجية للتخفيف من صدمات الإمداد المستقبلية.
ومع ذلك، وبعد أكثر من عقد، لا تزال اليابان تعتمد على الصين في أكثر من 70% من وارداتها من المعادن النادرة، بحسب ما نقله موقع “بروجكت سنديكيت”.
ولم تتشكل هيمنة الصين على هذا القطاع، بين ليلة وضحاها، ولن يكون من السهل زعزعتها. فقوتها لا تكمن في احتكار المواد الخام فحسب، بل في القدرة الصناعية على التكرير والمعالجة والإنتاج على نطاق واسع.
أكثر من 25 ألف براءة اختراع بين 1950 ـ 2018 تمثل ضعف ما سجلته أمريكا
واليوم، تتحكم بكين فيما يتراوح بين 85 ـ 90% من القدرة العالمية على تكرير المعادن النادرة، وتنتج نحو 90% من المغناطيسات النادرة عالية الأداء في العالم، وهي الدولة الوحيدة التي تمتلك سلسلة توريد متكاملة رأسياً من التعدين إلى الفصل الكيميائي ثم تصنيع المغناطيسات.
لم يوفر التفوق الصناعي في الصين تقدماً إنتاجياً فحسب، بل أيضاً حاجزاً تكنولوجياً يصعب اختراقه.
ففي الفترة من 1950 إلى 2018، سجلت الصين أكثر من 25 ألف براءة اختراع مرتبطة بالمعادن النادرة، أي أكثر من ضعف ما سجلته الولايات المتحدة.
كما أن عقوداً من الخبرة العملية في الكيمياء المعقدة وعلم المعادن الخاص بالمعادن النادرة، منحت الشركات الصينية عمقاً معرفياً يصعب على نظيراتها الغربية تقليده.
وفي ديسمبر 2023، عززت بكين تفوقها بفرض حظر شامل على تصدير تقنيات استخراج وفصل وإنتاج المغناطيسات النادرة.
كما أن اللوائح البيئية المتساهلة في الصين منحت شركاتها ميزة تنافسية قوية على نظيراتها الغربية.
ففي عام 2002، اضطر منجم ماونتن باس الأمريكي إلى وقف عمليات التكرير بعد تسرب نفايات سامة، بينما سمحت البيئة التنظيمية المرنة في الصين بزيادة إنتاج المعادن النادرة بسرعة، مع تأخيرات أقل وتكاليف أقل بكثير.
تدرك بكين أن نقاط الاختناق في المعادن النادرة ليست ثابتة، بل تتطور مع التكنولوجيا، لذا انتظرت بصبر حتى ازداد اعتماد الغرب على مغناطيسات المعادن النادرة بشكل هائل مع التحول العالمي نحو الطاقة الخضراء، ما أدى إلى ارتفاع الطلب على السيارات الكهربائية وتوربينات الرياح.
حتى إذا نجح الغرب في بناء سلسلة إمداد موازية لتلبية احتياجات المعادن النادرة الحالية، فإن نقاط الاختناق المستقبلية قد تظهر في أماكن أخرى.
فعلى سبيل المثال، تعتمد الحوسبة الكمية بشكل متزايد على نظائر نادرة مثل “الإيتربيوم-171″، وكذلك على عناصر مثل “الإربيوم” و”الإيتريوم”.
وقد تصبح هذه التطبيقات الناشئة نقاط ضغط جديدة، تدفع الولايات المتحدة وحلفاءها مجدداً إلى سباق اللحاق بالركب.
لا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بالسيطرة على تقنيات لا تستطيع الصين الاستغناء عنها
وعليه، يجب على الولايات المتحدة مواجهة حقيقة غير مريحة، ألا وهي أن هيمنة الصين على المعادن النادرة مرشحة للاستمرار في المستقبل المنظور.
ورغم أن استراتيجيات دفاعية مثل تنويع سلاسل الإمداد قد تقلل بعض المخاطر، فإن تحقيق الصمود الحقيقي يتطلب استراتيجية هجومية تعزز نفوذ واشنطن.
لا تزال الولايات المتحدة تمتلك أوراقاً مهمة، فطالما أنها تحتفظ بالسيطرة على تقنيات أو بنية تحتية لا تستطيع الصين الاستغناء عنها، سواء كانت رقائق متقدمة أو نماذج ذكاء اصطناعي رائدة أو الوصول إلى النظام المالي القائم على الدولار، فإن لدى بكين حافزاً قوياً للإبقاء على تدفق المعادن النادرة.
لكن .. ولسنوات، اتبعت واشنطن مساراً معاكساً، عبر فك الارتباط تدريجياً وتقييد تدفق التقنيات الرئيسة إلى الصين.
منذ إدارة ترامب الأولى، اتبعت الولايات المتحدة نهج إدراج الشركات التكنولوجية الصينية الكبرى على القوائم السوداء وتشديد قيود التصدير على الرقائق المتقدمة.
ورغم أن هذه الإجراءات كبحت في البداية شركات مثل “هواوي” و”زد تي إي” وأبطأت تطوير الذكاء الاصطناعي في الصين، إلا أن تطبيقها كان صعباً ومليئاً بالثغرات التي سمحت بالتحايل عليها.
كما أقرت وزيرة التجارة الأمريكية المنتهية ولايتها جينا ريموندو في ديسمبر 2024 قائلة إن “محاولة إعاقة الصين مهمة عبثية”.
في الوقت نفسه، حفزت قيود التصدير الأمريكية، جهود بكين لبناء بدائل محلية، ما سرع صعود شركات وطنية عملاقة مثل “هواوي”.
وبدلاً من تعزيز النفوذ الأمريكي على الصين، أسهمت السياسات الأمريكية تدريجياً في تقويضه.
على سبيل المثال، فإن فقدان شركة “إنفيديا” للوصول إلى السوق الصينية لن يعني مجرد خسارة مليارات الدولارات من الإيرادات، بل سيفقدها أيضاً نفوذها على أبرز منظومة مطوري الذكاء الاصطناعي خارج الولايات المتحدة.
وتشير التحولات السياسية الأخيرة إلى أن هذا الإدراك بدأ يترسخ. فقد عكس قرار إدارة ترامب تخفيف القيود على بيع رقائق “إتش 20” من “إنفيديا” للصين، توجهاً بعيداً عن الحظر الشامل نحو انخراط أكثر دقة.
والمفارقة أن مثل هذا الانخراط قد يكون شكلاً أكثر ذكاءً من تقليل المخاطر، فكلما زاد اعتماد الصين على التكنولوجيا الأمريكية، ازداد تشابك سلاسل الإمداد بين الجانبين، وصعب على بكين تسليح أصولها الاستراتيجية، بما في ذلك المعادن النادرة.
أخبار متعلقة :