اليوم الجديد

رداء التخرج استُبدل بالكفن.. مأساة طالبة جامعية سقطت في بئر بحجة (تقرير)

في إحدى القرى النائية بمديرية أُسلم بمحافظة حجة (شمال اليمن)، كانت أحلام "أمل" تكبر مع كل خطوة تقطعها نحو كُلِّيتها، متحدية طول الطريق وقسوة الحياة وحالمة بكسر قيود الحرمان والتهميش لكن حلمها الذي شقت طريقه بصعوبة انتهى فجأة في ظلمة بئر مكشوفة ابتلعتها في صمت أبدي.

 

كانت "أمل" – وهو اسم مستعار حفاظًا على خصوصية الأسرة – طالبة مجتهدة في سنتها الأخيرة بقسم التمريض باحدى الكليات في مديرية عبس المجاورة، تقطع يوميًا مسافة تقارب 25 كيلومترًا ذهابًا وإيابًا من قريتها إلى الكلية، ورغم وعورة الطريق وقلة الإمكانيات، لم تتخلَّ عن حلمها بأن تصبح ممرضة تخدم قريتها التي تفتقر لأبسط الخدمات الطبية.

 

نهاية الحلم

 

في فجر اليوم الذي انتهت فيه قصتها، أدّت أمل صلاة الفجر كعادتها ثم خرجت لجلب الماء من بئر القرية على ظهر حمارها في منطقة لا تصلها مشاريع المياه رغم كثافتها السكانية. ملأت أمل دباب الماء وهي تُفكر بالإفطار وارتداء زيها الأبيض استعدادًا ليوم دراسي جديد لكنها لم تعد أبدًا.

 

طال انتظارها وخرجت والدتها في قلق متزايد تبحث عنها وما إن وصلت إلى البئر حتى وجدت الحمار واقفًا بجانبها، لكن "أمل" غابت عن المكان. بعد لحظات من الذهول والهلع، بدأ الجيران في البحث ليكتشفوا أن أمل سقطت في البئر.

 

صدمة قاسية

 

كانت الصدمة قاسية على أسرتها وأهل قريتها وزميلاتها في الدراسة فأمل رحلت قبل أن ترتدي ثوب التخرج وتضع قبعته على رأسها، وقبل أن تسمع تصفيق زميلاتها وهي تصعد منصة التخرج. لم تحصد ثمار سنوات الكفاح بل زُفّت إلى قبرها بالكفن الأبيض، لتبقى صورتها عالقة في الأذهان كحلم انكسر قبل أن يكتمل.

 

 

تقول زميلتها "هدى علي"، وهي طالبة في نفس الكلية: "كانت أمل أكثر من مجرد صديقة، وكانت نموذجًا في الإصرار والإلهام تنهض مبكرًا قبل شروق الشمس لجلب الماء ثم تقطع طريقًا طويلًا إلى الكلية ولم نسمع منها كلمة تذمر، كانت تحلم بأن تعود إلى قريتها ممرضة تداوي الجراح وتمنح الأمل للأطفال والنساء.

 

وتضيف في حديثها لـ”الموقع بوست”، "كنا نعدّ الأيام لنحتفل بتخرجنا سويًا، ونتبادل أحلامنا عن المستقبل الذي كنا ننتظره بشغف. كانت أمل تحلم باليوم الذي نرتدي فيه قبعة التخرج، لكن الحلم انكسر فجأة عندما سقطت ضحية بئر بلا غطاء ودولة بلا مسؤولية".

 

ودعت هدى إلى تنفيذ مبادرات مجتمعية لتسوير الآبار المكشوفة المنتشرة في الريف اليمني، لمنع وقوع حوادث السقوط في تلك الآبار التي تحولت إلى كابوس يؤرق حياة السكان وقبور مفتوحة تتربص بأرواح الأبرياء.

 

ألم جماعي لفتيات الريف

 

"لا تقتصر القصة على أمل بل تمتد كألم جماعي لفتيات الريف"، يقول الناشط المجتمعي محمد الطيب مضيفًا: "ما حصل لأمل ليس حادثًا عرضيًا بل نتيجة تراكمية لإهمال مزمن فهناك مئات الفتيات مثلها يعانين يوميًا من أجل الحصول على شربة ماء في ظل انتشار آبار مياه بلا أغطية أو وسائل أمان، ما جعل حوادث سقوط الفتيات والأطفال تتكرر في السنوات الماضية وتخلف مآسي لا تُحصى".

 

ويضيف في حديثه لـ”الموقع بوست”، "رحلة البحث عن مياه نظيفة لا تقتصر على أهالي المنطقة فقط فحتى النازحون الذين لجؤوا إلى هذه المناطق هربًا من الحرب يعيشون المعاناة ذاتها، بينما يتحمل المجتمع المضيف ضغطًا إضافيًا على موارده الشحيحة لتتداخل مأساة النزوح مع مأساة شح المياه في دائرة واحدة من الألم.

 

ويتابع: "قصة أمل مرآة تعكس واقع ملايين اليمنيين في القرى والمناطق المحرومة، حيث تصبح أبسط الحقوق كالماء والتعليم حلمًا مؤجلًا أو ثمنًا مدفوعًا من أرواح الأبرياء".

 

مخاطر متعددة

 

وتعاني المجتمعات الريفية في اليمن من شحّ شديد في المياه، وتعتمد بشكل كبير على مصادر غير دائمة مثل المياه الجوفية ومياه الأمطار الموسمية، التي لا تلبّي سوى جزء بسيط من الاحتياجات اليومية، ما يدفع السكان إلى البحث المستمر عن بدائل، غالبًا ما تكون غير آمنة أو بعيدة.

 

وتتحمّل النساء والفتيات العبء الأكبر في توفير المياه، إذ يضطررن إلى قطع مسافات طويلة يوميًا سيرًا على الأقدام وبوسائل بدائية، ما ينعكس سلبًا على صحتهن الجسدية، ويحرمهن من فرص التعليم والعمل، ويعرّضهن لمخاطر متعددة تهدد سلامتهن الجسدية والنفسية.

 

مهمة يومية شاقة

 

تقول الناشطة فاطمة عايض لـ”الموقع بوست”، إن الحصول على المياه الصالحة للشرب في الأرياف يُعد مهمة يومية شاقة تبدأ مع بزوغ الفجر وتستمر حتى غروب الشمس، وغالبًا ما تقع هذه المسؤولية على عاتق النساء والأطفال، الذين يضطرون لقطع مسافات طويلة لجلب الماء الصالح للشرب.

 

وتؤكد أن أزمة المياه في اليمن لم تعد مجرد مشكلة خدمية، بل تحولت إلى كارثة إنسانية تطال النساء بشكل مباشر، لا سيما في الأرياف، حيث تُجبر الفتيات على ترك مدارسهن للالتحاق برحلة البحث اليومية عن الماء".

 

وتوضح في حديثها لـ”الموقع بوست”، أن "الكثير من الأسر الريفية تعتمد على الفتيات في جلب المياه من مسافات بعيدة، مما يسلبهن حقهن في التعليم، ويعرض حياتهن لمخاطر جسيمة أثناء تنقلهن في طرق وعرة وأماكن نائية".

 

 

وتشير إلى وقوع عشرات الحوادث المأساوية لفتيات ونساء سقطن في آبار أو لقين حتفهن غرقًا أثناء محاولتهن استخراج الماء من البرك أو الحواجز مائية، وهي قصص تتكرر بصمت في ظل غياب حلول حقيقية ومستدامة.

 

أزمة مياه خانقة

 

تعيش اليمن أزمة خانقة في توفير المياه تفاقمت خلال سنوات الحرب، نتيجة تدمير البنية التحتية وانهيار شبكات المياه العامة، وزاد من حدة الأزمة شحّ الأمطار وتغير المناخ، ما جعل الحصول على المياه النظيفة تحديًا يوميًا، خاصة في المناطق الريفية والنائية.

 

وتعد اليمن من أكثر الدول معاناة من شحّ المياه على مستوى العالم، حيث تقع ضمن حزام جغرافي يتسم بندرة الموارد المائية ولا يتجاوز نصيب الفرد 2% من المتوسط العالمي، إذ يستهلك اليمني أقل من 100 متر مكعب من المياه سنويًا، مقارنةً بمتوسط عالمي يقارب 7,000 متر مكعب وفقًا لتقارير دولية.

 

وتشير بيانات أممية إلى أن نحو 80% من النزاعات المحلية في اليمن ترتبط بخلافات على مصادر المياه، وتتسبب سنويًا في مقتل قرابة 4,000 شخص. كما أن معدل الأمطار السنوي في البلاد، لا يتجاوز 167 ملم، ولا يُستفاد فعليًا سوى من 3% فقط منها كمياه سطحية تُستخدم في الزراعة أو الشرب.

 

تحذيرات أممية

 

وحذرت الأمم المتحدة من تفاقم أزمة المياه في اليمن، مؤكدة أن أكثر من 17 مليون شخص يعانون من عجز في الحصول على المياه الكافية لتلبية احتياجاتهم الأساسية، بما في ذلك الشرب والاستحمام والطهي، في ظل أزمة ازدادت سوءًا بفعل الحرب المستمرة والجفاف الذي يضرب البلاد.

 

وقال مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، في بيان إن نقص موارد المياه وخدمات الصرف الصحي والنظافة يعرض حياة الملايين للخطر، مشيرًا إلى أن هذه الأزمة تسهم بشكل مباشر في انتشار الأمراض وسوء التغذية، وخاصة بين الأطفال.

 

إحصائيات صادمة

 

بحسب تقديرات أممية يواجه 15 مليون شخص في اليمن، من بينهم 9.6 مليون امرأة وفتاة صعوبات جمة في الحصول على كميات كافية من المياه النظيفة، وذلك بسبب تراجع هطول الأمطار ونقص التمويل اللازم لتوفيرها، ما ينذر بكارثة إنسانية.

 

ووفقًا لأوتشا، لم تحظَ مجموعة المياه والصرف الصحي والنظافة في إطار خطة الاستجابة الإنسانية إلا بجزء ضئيل من التمويل المطلوب، إذ لم تتلقَ سوى 12.8 مليون دولار من أصل 176.9 مليون دولار، أي ما يعادل 7.2% فقط.

 

وفي ظل هذا العجز الحاد، حثّ مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، الجهات المانحة على ضرورة التدخل العاجل لمعالجة الأزمة، وتقديم الدعم اللازم لتلبية الاحتياجات المتزايدة للمجتمعات المتأثرة في مختلف أنحاء البلاد.


أخبار متعلقة :