الجيش اللبناني ونزع السلاح: بين الواقع والمأمول

الفن 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ

في لبنان، حيث تتداخل الأزمات وتتشابك الحلول، يبرز ​الجيش اللبناني​ كآخر ملاذ آمن تلجأ إليه القيادة السياسية عندما تستعصي الحلول. فبعد عقود من الاعتماد على هذه المؤسسة الوطنية لحل المعضلات الأمنية والسياسية، تواجه القيادة العسكرية اليوم تحدياً يختلف جذرياً عن كل ما سبق: رفع ورقة الى مجلس الوزراء في غضون شهر واحد، تهدف الى تأمين ​نزع السلاح​، وابرزه سلاح ​حزب الله​. هذا القرار الذي اتخذه مجلس الوزراء يعكس نمطاً مألوفاً في ​السياسة اللبنانية​، حيث يُحمّل الجيش أعباء سياسية معقدة دون تزويده بالأدوات أو الآليات اللازمة لتنفيذها. فالمؤسسة العسكرية، رغم احترامها الشعبي والثقة التي تحظى بها، تجد نفسها مجدداً في موقع الحل السحري لمعادلة لم تستطع القوى السياسية حلها طوال عقود.

إن المهمة الموكلة للجيش تتضمن تحدياً هائلاً يتجاوز قدراته التقليدية. فحزب الله، الذي كان حتى الأمس القريب يمتلك ترسانة عسكرية متقدمة ونفوذاً إقليمياً واسعاً، لا يمكن التعامل مع سلاحه كما مع أسلحة الميليشيات التقليدية. هذا السلاح تطور عبر عقود من الاستثمار والتدريب والتطوير، وكان جزءاً من شبكة إقليمية معقدة تمتد من إيران إلى سوريا، ووضع إسرائيل كلها على المحك، وحاولت اكثر من مرة القضاء عليه بكل ما تملك من دعم دولي واقليمي. المهلة الزمنية المحددة بشهر واحد تبدو غير واقعية أمام هذا التعقيد. فوضع خطة عملية لنزع السلاح يتطلب عادة معطيات اكبر وتوفير اجواء سياسية وطائفية اكثر سلاسة، وقراراً موحداً لا يبدو انه متوافر حالياً ولو ان نسبة كبيرة من اللبنانيين باتت تؤيده، إضافة الى آليات دقيقة لجمع الأسلحة والسيطرة عليها، وضمانات سياسية وأمنية للأطراف المعنية.

الأكثر إثارة للقلق هو التناقض الواضح في الموقف الرسمي اللبناني. فالدولة التي كانت واضحة في عدم رغبتها بوضع الجيش في مواجهة مباشرة مع حزب الله -وهو موقف منطقي نظراً للتوازنات الداخلية والمخاطر الأمنية- تجد نفسها اليوم تكلف الجيش بمهمة قد تؤدي إلى حصول هذه المواجهة، بين نهاية هذا الشهر ونهاية العام. هذا التناقض يعكس عمق الأزمة في صنع القرار السياسي اللبناني، حيث تُتخذ القرارات تحت ضغط الظروف دون دراسة كافية للعواقب أو توفير البدائل اللازمة. الجيش، المطالب بإيجاد الحل، لم يحصل على خارطة طريق واضحة أو ضمانات سياسيّة تحميه من تبعات المهمة الصعبة.

في هذا السياق المعقد، تبرز مخاوف جدّية من استغلال أطراف خارجيّة لهذا الوضع الدقيق. إسرائيل، التي تسعى منذ عقود لإضعاف حزب الله، قد ترى في هذه المرحلة فرصة ذهبية للضغط على الجيش اللبناني أو دفعه نحو صدام داخلي يُضعف البنية الأمنية للبلد، وتبقي تل ابيب خارج دائرة الخطر ومن دون خسارة أي جندي، كما أن الفصائل السوريّة المسلحة، التي تنشط على الحدود اللبنانيّة، قد تحاول استغلال أيّ فراغ أمني أو انشغال للجيش اللبناني لتوسيع نفوذها أو تهديد ​الاستقرار الحدودي​، لاسيما القرى الشيعيّة المتاخمة لسوريا.

هذا السيناريو يخدم مشروع "​الشرق الأوسط الجديد​" الذي يهدف إلى إعادة رسم خريطة المنطقة وفق توازنات جديدة لا تراعي إرادة الشعوب أو مصالحها الحقيقية.

في ضوء هذه المعطيات، يبدو أن لبنان يقف أمام مفترق طريق حرج. والحل الواقعي يتطلب أولا إعادة النظر في المهلة الزمنية المحددة وجعلها أكثر واقعية. ثانياً، يحتاج الأمر إلى حوار سياسي شامل بين جميع الأطراف اللبنانية لوضع آلية متدرجة ومتفق عليها لمعالجة موضوع السلاح، كما يتطلب تعزيز قدرات الجيش اللبناني مالياً وعسكرياً، وتوفير غطاء سياسي ودبلوماسي يحميه من ​التدخلات الخارجية​، وعدم الاكتفاء فقط بالوعود التي علمتنا السنوات انها غالباً ما تكون فارغة، ومنها مسالة الـ10 مليارات دولار على مدى عشر سنوات. وأخيراً، لا بد من وضع خطّة بديلة واضحة في حال فشل المهمة الحالية، تجنب البلد الانزلاق نحو فوضى أمنيّة قد تخدم أجندات خارجيّة مدمرة.

إن الجيش اللبناني، رغم كونه المؤسسة الأكثر تماسكاً في البلد، ليس عصا سحرية. ونجاحه في هذه المهمة يتطلب إرادة سياسية حقيقية، وخطة عملية واقعية، ودعماً شعبياً واسعاً، والاّ فإنّ المخاطر المحدقة بلبنان واستقراره قد تتفاقم بدلاً من أن تُحلّ.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق