اختتم سينودس الأساقفة الموارنة دورته العادية التي انعقدت بين 4 و14 حزيران في الكرسي البطريركي في بكركي، بدعوة من البطريرك الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي، وبمشاركة المطارنة من لبنان وبلدان الانتشار. وتلا البيان الختامي راعي أبرشية البترون المطران منير خيرالله.استُهلّت الدورة برياضة روحية من 4 إلى 7 حزيران ألقى عظاتها الأب فاليري بيطار الكرملي تحت عنوان "الرجاء الذي لا يخيّب"، تلتها جلسات الأعمال السينودسية من 9 إلى 14 حزيران، وشملت تدارس الشؤون الكنسية والراعوية والاجتماعية والوطنية، وسط روح من الشراكة والتمييز المشترك.وفي الشأن الكنسي، عبّر الآباء عن فرحهم بانتخاب البابا لاوون الرابع عشر، وأثنوا على مواقفه الداعية إلى السلام والعدالة الاجتماعية، وتأكيده أهمية الكنائس الشرقية ودورها التاريخي والروحي، خصوصًا في بلدان الانتشار.كما تناول السينودس الإصلاح الليتورجي، فناقش نصوصًا طقسية عدة، منها كتاب الإرشادات ورتب الأسرار والروزنامة الليتورجية، إلى جانب مسألة سبت النور وترجمات النصوص الطقسية إلى لغات الانتشار. وأُعلن أن كتاب القداس الماروني سيصدر قريبًا بالفرنسية والألمانية.وفي محور التنشئة الكهنوتية، اطّلع الأساقفة على تقارير الإكليريكيات في غزير وكرمسده وواشنطن وروما، مؤكدين أهمية التضامن الكنسي لتأمين تنشئة ملائمة، ومشدّدين على دعم الكليات اللاهوتية لتمكين العلمانيين من التعمق في إيمانهم ورسالتهم.كما عرض السينودس تقريرًا حول تطبيق توصيات سينودس السينودسية في روما، مشددًا على التوبة والإصغاء والتمييز، مع خطة عملية تمتد حتى عام 2028.وفي الشؤون القانونية، ناقش الآباء عمل المحاكم الكنسية وضرورة تسريع الإجراءات وتوسيع الطواقم القضائية، مشيدين بجهود مراكز الوساطة والمرافقة القانونية والنفسية. كما تمّ التوقف عند التحديات العائلية المتزايدة وأثرها على القضايا الزوجية.وتضمّن البيان عرضًا لأعمال المكاتب والمؤسسات التابعة للدائرة البطريركية، من راعوية الشبيبة، إلى المرأة، والعائلة، والتوثيق والأبحاث، والتواصل الرقمي، ومؤسسات الإنماء والانتشار، وكلها تعمل بإشراف البطريرك في سبيل تعزيز الحضور الروحي والاجتماعي للكنيسة المارونية في لبنان والعالم.تابع الآباء أوضاع الأبرشيات المارونية في لبنان وبلدان النطاق البطريركي، وسط قلق عميق من تداعيات الحرب الدائرة بين إسرائيل وإيران، وما تخلّفه من توترات على مستوى المنطقة. وجددوا الدعوة إلى وقف الأعمال العسكرية والعودة إلى منطق الحوار والحلول الديبلوماسية.وتوقف الآباء عند معاناة المؤمنين في ظلّ الأزمات المتفاقمة اقتصاديًا وماليًا ومعيشيًا وأمنيًا، خصوصًا في لبنان وسوريا والأراضي المقدسة، نتيجة الحروب والصراعات المتواصلة، لا سيما في غزة والضفة الغربية. وعبّروا عن استنكارهم الشديد لما يتعرض له الشعب الفلسطيني منذ أكثر من سنة وثمانية أشهر، داعين المجتمع الدولي وأصحاب الضمائر الحيّة إلى الضغط الجاد لوقف إطلاق النار وبدء مفاوضات على أساس الاعتراف بحل الدولتين وفق قرار مجلس الأمن رقم 181.وفي هذا السياق، انتخب السينودس مطارنة للأبرشيات الشاغرة، وقرر نقل المطران يوحنا رفيق الورشا من مهماته كمعتمد بطريركي لدى الكرسي الرسولي ورئيس للمعهد الماروني في روما إلى منصب النائب البطريركي في منطقة جونية، كما نقل المطران الياس نصار، مطران صيدا شرفًا، إلى الكوريا البطريركية.أما في سوريا، فدعا الآباء إلى بناء دولة تقوم على أسس المواطنة والعدالة والحرية والمساواة واحترام التنوع، معربين عن أملهم بأن يؤدّي رفع العقوبات إلى تحسين الظروف الاقتصادية والمعيشية بما يسمح للسوريين بالبقاء في أرضهم أو العودة إليها، والمساهمة في إعادة الإعمار.وفي ما خصّ الرعايا في بلدان الخليج، شدّد الآباء على أهمية تلبية الحاجات الروحية والكنسية لأبنائهم من خلال تأمين كهنة يتابعون خدمتهم الراعوية ويحافظون على تراثهم السرياني الأنطاكي.أما على مستوى أبرشيات الانتشار، فاستعرض الآباء أوضاع الكنيسة المارونية في أوروبا وأفريقيا وأميركا الشمالية والجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا وأوقيانيا، مع التركيز على حاجات الأبرشيات الشاغرة، لا سيما في فرنسا والمكسيك، حيث تم رفع لائحة أسماء مرشحين إلى الكرسي الرسولي لتعيين مطران لكل منهما.وتوقف السينودس عند تزايد ظاهرة الهجرة من لبنان وسائر بلدان الشرق الأوسط نحو بلدان الانتشار، ما يطرح تحديات على مستوى تناقص أعداد الموارنة في أوطانهم الأم مقابل تزايد الحاجات الراعوية في أوطانهم الجديدة.وفي هذا الإطار، استعرض المجتمعون توصيات مؤتمر مطارنة الانتشار السابع الذي عُقد في بكركي يومي 2 و3 حزيران تحت عنوان: "الأبرشيات المارونية خارج النطاق البطريركي هي علامات رجاء في قلب الكنيسة المارونية". وركّزت التوصيات على أهمية تعزيز التواصل والتعاون بين أبرشيات الانتشار ولبنان، وتبادل الكهنة والخبرات، والالتزام بالطقوس الليتورجية الموحّدة التي تحفظ وحدة الموارنة في العالم.وأثنى السينودس على الجهود التي يبذلها مطارنة الانتشار في الحفاظ على الإيمان والتراث الماروني، وتشجيع الجاليات على التمسك بجذورها ودعم أوطانها الأصلية، روحًا ورسالةً وانتماء.ثالثًا: في الشأن الاجتماعي والتربوي وخدمة المحبةناقش الآباء بقلق عميق الأوضاع المعيشية الخانقة والأزمات الاقتصادية والصحية والتربوية التي ترهق اللبنانيين، ولا سيما في ظل تقاعس الدولة عن أداء واجباتها تجاه مواطنيها، ما يزيد من معاناتهم اليومية ويهدّد كرامتهم وحقوقهم الأساسية.وتوقفوا عند ما تواجهه المؤسسات الكنسية، لاسيما المدارس والمستشفيات ومراكز الخدمة الاجتماعية، من صعوبات مالية متفاقمة، تؤثر على قدرتها في الاستمرار برسالتها وخدمة الناس. كما استعرضوا واقع التربية والتعليم، الرسمي والخاص، مؤكدين ضرورة التزام الدولة بحماية القطاع التربوي، وتسريع عملية تحديث المناهج، وتعزيز مفاهيم المواطنة والانفتاح والحوار بين الطلاب لما فيه خير المجتمع.وأعرب الآباء عن تقديرهم لتضحيات الأهل في سبيل تعليم أولادهم، وناشدوا المعنيين في القطاع التربوي اعتماد سياسات متوازنة تراعي أوضاع الأهل الاقتصادية من جهة، وتؤمّن استمرارية المؤسسات التربوية من جهة أخرى. كما دعوا الأمانة العامة للمدارس الكاثوليكية إلى مواصلة الحوار مع النواب ونقابة المعلمين والمسؤولين في القطاع بهدف إقرار تشريعات تضمن كرامة المعلمين وتكافؤ فرص التعليم.وطلب الآباء من الأبرشيات والرهبانيات تكثيف جهودها حتى لا يُحرم أي طالب من العلم بسبب الأوضاع الاقتصادية، مذكّرين بأن التربية تشكّل حجر الزاوية في بناء الكنيسة والمجتمع.وأكد الآباء من جديد التزامهم بمرافقة شعبهم، والعمل عبر مؤسساتهم الكنسية، بالتعاون مع أبرشيات الانتشار والهيئات الدولية المانحة، لتأمين ما تيسّر من دعم في ميادين التعليم والاستشفاء والدواء.رابعًا: في الشأن الوطنيعبّر الآباء عن قلقهم العميق من الأزمة الوجودية التي يواجهها لبنان، بعد مرور نصف قرن على اندلاع الحرب، معتبرين أنها تهدّد الكيان اللبناني ومقومات العيش المشترك. لكنهم أشاروا إلى بوادر أمل بدأت بالظهور مع انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وتكليف رئيس لمجلس الوزراء وتشكيل حكومة جديدة، وقد أعلن جميعهم نيتهم بناء دولة القانون واستعادة ثقة المواطنين.وأثنوا على بدء التعيينات والتشكيلات في الإدارات العامة والجسم القضائي والمؤسسات الأمنية، معتبرين أن هذه الخطوات تمهّد الطريق للإصلاحات المطلوبة، وجدّدوا دعمهم الكامل لفخامة الرئيس والحكومة، داعين إلى قرارات جريئة وسريعة تعيد تفعيل مؤسسات الدولة.وركّز الآباء على ضرورة تنفيذ سلسلة من الإصلاحات البنيوية التي لا بد منها لمعالجة الأزمة، ومنها: إعادة الودائع كاملة، تنفيذ القرار 1701 بشكل كامل، حصر السلاح بيد الدولة، إصلاح القضاء واستقلاليته، إعادة الإعمار، هيكلة الدين العام والقطاع المصرفي، إصلاح النظام الضريبي، مكافحة الفساد، تحسين بيئة الأعمال، وضبط الحدود ومنع التهريب. وأكدوا أن تحقيق هذه الأهداف يتطلب تعاونًا صادقًا بين الحكومة والبرلمان والقوى السياسية.وتابع الآباء عن كثب التطورات السياسية والديبلوماسية المتسارعة في الشرق الأوسط، وما قد تحمله من انعكاسات على لبنان، ورأوا في الدعم الدولي للبنان فرصة ثمينة ينبغي اغتنامها عبر خطوات شجاعة لإعادة الاعتبار لسلطة الدولة ومكانتها، معتبرين ان " الدعم الدولي للبنان ولحكومته فرصة، لا يمكن أن تتكرر ولا يجب أن تضيع".ودعوا السياسيين والأحزاب والكتل النيابية إلى التعامل بجدية مع ما تبقّى من بنود اتفاق الطائف، وتنفيذها دون انتقائية. وذكّروا بمسيرة تنقية الذاكرة الوطنية التي أطلقتها الكنيسة، معتبرين أن المصالحة الحقيقية لا تستوي من دون مواجهة الماضي والعمل على بناء مستقبل مشترك.وفي هذا السياق، أشاروا إلى اللقاء الذي جمع في 14 نيسان 2025 صاحب الغبطة الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي مع النواب المسيحيين في مزار سيدة لبنان – حريصا، حيث أطلق مبادرة تنقية الذاكرة، وكلّف اللجنة الأسقفية المكلّفة بالشروع في تنفيذ هذه المهمة الوطنية، معربين عن أملهم بأن تكون هذه السنة اليوبيلية سنة رجاء ومصالحة ووحدة وطنية.وتوجّه الآباء في ختام أعمالهم إلى أبنائهم المنتشرين في أصقاع الأرض بكلمات محبة ورجاء، مؤكدين أن الكنيسة تصغي إليهم وتشاركهم أوجاعهم وتتفهم تطلعاتهم، وأنهم ليسوا وحدهم. فالكنيسة حاضرة معهم، عبر رعاتها ومؤسساتها، وشعبها المتضامن في الداخل والانتشار.وشدّد الآباء على أن الله اختارهم، رغم ضعفهم، ليكونوا في خدمة شعبه، ويشهدوا للمسيح الخادم، ويقفوا إلى جانب كل مظلوم ومريض ومهجّر.ورغم قسوة الظروف، شددوا على أن الرجاء لا يزال حيًا، لأن يسوع المسيح هو رجاؤهم. واستحضروا كلمات البابا لاوون الرابع عشر:"من يمكنه، أكثر منكم، أن يترنّم بكلام الرجاء في زمن العنف، أنتم الذين اختبرتم أهوال الحرب؟ تعالوا نبني معًا، بنور وقوة الروح القدس، كنيسة قائمة على محبة الله، وعلامةً للوحدة، كنيسة مرسلة تفتح ذراعيها للعالم وتبشّر بكلمة الله، وتكون خميرةَ انسجام وسلام للبشرية."وختموا بدعوة الجميع إلى عدم الخوف، لأن الكنيسة قوية بالمسيح وبتضامن أبنائها، وطلبوا شفاعة العذراء مريم، سيدة لبنان ونجمة الرجاء، والقديسين، ولا سيما الشهداء المسابكيين والبطريرك اسطفان الدويهي، ليكونوا جميعًا رُسل محبة، وأنبياء رجاء، وصانعي سلام.