بدأت ملامح إعادة التموضع في استراتيجيات البنوك المصرية تظهر مع التراجع الأخير في أسعار الفائدة، وسط تساؤلات حول توقيت تحوّل البنوك من الاستثمار المكثف في أدوات الدين الحكومية إلى التوسع في الإقراض للأفراد والشركات، ورغم أن خفض الفائدة قد يشجع على تنشيط الطلب على القروض، إلا أن العائد المغري من أذون الخزانة مازال يحتفظ بجاذبيته لدى العديد من البنوك.
وأسفر مسح أجرته «البورصة» على القوائم المالية للبنوك المقيدة والبالغة 11 بنكًا لمعرفة نسب توظيف القروض إلى الودائع بنهاية الربع الأول من العام الجاري، عن وصول نسب التوظيف بين 38% و59%، وتصدر تلك البنوك بنك كريدي أجريكول القطاع من حيث الأعلى نسب توظيف.
وتشير نسب التوظيف في البنوك إلى مدى كفاءة استخدام البنك للموارد المتاحة لديها، خاصة الودائع، في تحقيق العوائد، سواء عبر منح القروض للعملاء أو الاستثمار في أدوات مالية مثل أذون وسندات الخزانة. وتعكس هذه النسب توجهات البنوك نحو الإقراض أو الاحتفاظ بالسيولة، وتعد مؤشرًا على قدرة البنك على تحقيق الربحية واستغلال أمواله بشكل فعّال.
الألفي: حجم تأثير خفض الفائدة سيظهر بحلول العام المقبل
وقال عمرو الألفي، رئيس قسم الاستراتيجيات بشركة ثاندر لتداول الأوراق المالية، إن سياسة الفائدة المرتفعة دفعت البنوك خلال الفترة الماضية إلى توجيه جانب كبير من الودائع نحو أدوات الدين الحكومية، وعلى رأسها أذون الخزانة، باعتبارها الأكثر ربحية وأقل مخاطرة على المدى القصير.
وأوضح أن تراجع أسعار الفائدة الذي بدأ في أبريل الماضي، سيؤثر تدريجيًا على سلوك البنوك خلال العام الجاري، لكن الأثر الأوضح سيتجلى بشكل أكبر خلال 2026، حين تبدأ البنوك في تقليص استثماراتها في أدوات الدين قصيرة الأجل لصالح التوسع في الإقراض.
وأشار إلى أن كفاءة توظيف الودائع تختلف من بنك إلى آخر، فبعض البنوك تصل نسبة توظيف الودائع لديها إلى نحو 60% مثل بنك فيصل الإسلامي، في حين تتراوح لدى بنوك أخرى ما بين 40 و50%، ويعتمد ذلك على سياسة كل بنك واستراتيجيته في إدارة السيولة.
وأضاف الألفي أن ارتفاع نسبة القروض إلى الودائع لم يعد مؤشرًا كافيًا للحكم على كفاءة البنك، مشيرًا إلى أن بعض البنوك قد تحقق عوائد مرتفعة رغم انخفاض هذه النسبة، بفضل التوسع في الاستثمار في أذون وسندات الخزانة، والتي تدر عائدًا جيدًا على المدى القصير.
واقترح الاعتماد على مؤشر أكثر دقة يتمثل في “نسبة القروض بالإضافة إلى استثمارات أدوات الدين الحكومية من إجمالي الودائع”، باعتباره يعكس توجه البنك سواء نحو تعزيز حصته السوقية في الإقراض أوتعظيم العائد قصير الأجل من أدوات الدين.
وتُعد نسب التوظيف من المؤشرات الرئيسية التي تُظهر كفاءة البنك التشغيلية، إذ يتم تقييمها عبر مقارنة حجم القروض (وأحيانًا القروض مع أذون الخزانة) بحجم الودائع. فإذا كانت النسبة أقل من 40%، فإن البنك يُصنف كمتحفظ، حيث يحتفظ بسيولة مرتفعة إما بدافع الحذر أو نتيجة ضعف في منح القروض، أو لاعتماده بشكل أكبر على أدوات استثمارية مثل أذون الخزانة.
بينما تشير النسب التي تتراوح بين 40% و70% إلى توظيف متوسط للودائع، يعكس توازنًا بين الإقراض والاحتفاظ بالسيولة، وغالبًا ما يرتبط ببنوك تفضل سياسات إقراض حذرة. وتُعتبر النسب ما بين 70% و90% دليلاً على توظيف نشط وكفء للموارد، حيث يسعى البنك لتعظيم عوائده عبر الإقراض، أما تجاوز النسبة لـ90%، فيعكس اعتمادًا كبيرًا على الإقراض، ما قد ينطوي على مخاطر أعلى، خاصة إذا كانت محفظة القروض غير متنوعة أو تفتقر إلى الجودة.
وحقق بنك كريدي أجريكول النسبة الأكبر فى توظيف الودائع للقروض والتي وصلت إلى 59%، على الرغم من ارتفاع معدلات الفائدة وتوجه البنوك نحو أدوات الدخل الثابت والأقل مخاطرة، نابع عن نموذج أعمال البنك الذي يتميز بالاعتماد على القروض بشكل أكبر دون التوجه نحو الاستثمار في أدوات الدين.
إمام: البنوك تعزز دورها التمويلي ولا مخاوف على نسب التوظيف
وقال عبدالحميد إمام، رئيس قسم البحوث بشركة بايونيرز لتداول الأوراق المالية، إن تراجع معدلات الفائدة سيعيد المؤسسات المصرفية لدورها الأساسي كممول رئيسي للاقتصاد، بعد فترة من التركيز الكبير على أدوات الدين الحكومية.
وأوضح أن البنوك خلال فترة الفائدة المرتفعة، فضلت توظيف السيولة في أدوات الدخل الثابت وعلى رأسها أذون الخزانة، لكن مع اتجاه السياسة النقدية إلى التيسير، ستبدأ في تحويل جزء من السيولة إلى محفظة القروض، ما يدعم حصولها على حصة سوقية أكبر في التمويل.
وأضاف أن التأثير الإيجابي لخفض الفائدة قد لا يكون محسوسًا بشكل مباشر في نتائج أعمال العام الجاري، لكنه سيتحسن تدريجيًا بدءًا من 2025، خاصة مع توسع القطاع الخاص والأفراد في الحصول على تمويلات جديدة.
وأشار إلى أن البنوك باتت أكثر مرونة في التعامل مع التغيرات، بفضل تنوع شرائح العملاء التي تتعامل معها، وهو ما يخفف من حدة التحول في سياسات التوظيف والاستثمار. وبشأن نسب التوظيف المرتفعة في بعض البنوك مثل “قناة السويس” و”مصر لتنمية الصادرات” و”كريدي أجريكول”، والتي سجلت نسبًا مرتفعة من القروض إلى الودائع رغم الفائدة العالية، اعتبر إمام أن تلك المستويات لم تكن غير طبيعية أو سلبية، خاصة وأن السوق في طريقه للتوازن مجددًا مع التيسير المتوقع خلال الفترة المقبلة.
فهمي: تحرك هادئ للنشاط الائتماني والرسوم تدعم الربحية مؤقتاً
قال هيثم فهمي، خبير أسواق المال، إن تأثير خفض أسعار الفائدة على معدلات الإقراض بالبنوك لن يظهر بشكل فعلي خلال العام الجاري، وإنما سيبدأ في الانعكاس اعتبارًا من 2026، في ظل استمرار وجود شهادات ادخارية لأجل عامين وثلاثة أعوام بعوائد مرتفعة تم إصدارها سابقًا.
وأشار إلى أن أسعار الفائدة المرتفعة خلال الفترة الماضية أثرت بطبيعتها على معدلات الإقبال على القروض سواء من الأفراد أو الشركات، وهو ما انعكس على قدرة البنوك على توظيف السيولة المتاحة لديها، موضحًا أن جوهر النشاط المصرفي يرتكز على الإقراض باعتباره مصدر الربحية الرئيسي.
وأضاف أن البنوك قد تلجأ مؤقتًا لتعزيز ربحيتها عبر زيادة الرسوم المصرفية أو الخدمات المرتبطة بالعملاء، لكن ذلك لا يُعد بديلًا عن الإقراض، بل مجرد أدوات دعم للربحية. مشيرا إلى أن ارتفاع نسبة القروض إلى الودائع يُعد مؤشرًا إيجابيًا لكفاءة التوظيف، إذ يعكس قدرة البنك على استغلال موارده، غير أن تفسير تميز بعض البنوك عن غيرها في هذا المؤشر يرتبط بكفاءة الإدارة والتشغيل داخل كل بنك على حدة.
وقال أحد خبراء سوق المال، فضل عدم ذكر اسمه لـ«البورصة»، إن خفض أسعار الفائدة خلال الفترة المقبلة سيكون له تأثير إيجابي على القطاع المصرفي، عبر تحفيز النشاط الائتماني وتعويض التراجع المتوقع في هامش صافي العائد، من خلال التوسع في الإقراض وزيادة الإيرادات من الرسوم والعمولات.
اقرأ أيضا: خفض الفائدة يبطئ حركة الاستثمار غير المباشر فى أدوات الدين
وأوضح أن البنك المركزي خفّض أسعار الفائدة بنحو 3.25% حتى الآن، بعد زيادات متتالية بلغت في مجملها نحو 19% خلال السنوات الثلاث الماضية، متوقعًا استمرار الاتجاه النزولي للفائدة تدريجيًا على مدار السنوات الثلاث أو الأربع المقبلة.
وأشار المصدر إلى أن معدلات الفائدة المرتفعة في الفترة الماضية ساهمت في تحقيق البنوك لهوامش ربحية قوية، خاصة من خلال الاستثمار في أدوات الدين الحكومية، لافتًا إلى أن بعض البنوك وصلت بهامش صافي العائد إلى نحو 10%، في حين كان متوسط هذا الهامش يدور حول 3.5 إلى 4% قبل بدء دورة التشديد النقدي.
وأضاف أن عودة أسعار الفائدة إلى مستوياتها الطبيعية لن يكون تأثيرها سلبيًا بالضرورة، موضحًا أن إدارات البنوك قادرة على تعويض ذلك من خلال زيادة الإقراض نتيجة انخفاض تكلفة التمويل، إلى جانب تنمية الإيرادات غير المرتبطة بالفائدة مثل الرسوم والعمولات.
وأكد أن القطاع المصرفي حافظ على نمو قوي في حجم القروض رغم الفائدة المرتفعة، وهو ما يعكس استقرارًا نسبيًا في النشاط، مشيرًا إلى أن البنوك تمتلك كذلك مساحة إضافية للتوسع في الإقراض، بالنظر إلى انخفاض نسب التوظيف، حيث لا تتجاوز نسبة القروض إلى الودائع 50% في معظم البنوك المحلية، مقابل أكثر من 100% في بعض الأسواق الخليجية.
واعتبر أن تحسن الرؤية الاقتصادية وتراجع المخاطر قد يدفع البنوك كذلك إلى تقليص حجم المخصصات التي كانت تُكوَّن في فترات عدم الاستقرار، خاصة مع استقرار سعر الصرف وتراجع احتمالات التعثر.
وقال إن دورة التيسير النقدي المقبلة ستفتح المجال أمام الشركات والأفراد لتنفيذ خطط مؤجلة، بعد أن كانت معدلات الفائدة المرتفعة عائقًا أمام قرارات الاستثمار والتمويل. ومن الملاحظ حدوث بعض التباطؤ في نمو صافي أرباح بعض البنوك مثل كريدي أجريكول وبنك فيصل الإسلامي، وذلك بسبب وجود رصيد كبير لفروق تقييم عملة في الربع الأول من 2024، وبالتالي فإن تأثير فترة الأساس هو السبب في ذلك.
وعلى الرغم من ذلك، فإن إجمالي صافي أرباح البنوك المدرجة ارتفع بنسبة 11% على أساس سنوي ليصل إلى نحو 39 مليار جنيه خلال الربع الأول من 2025، نتيجة زيادة معدل نمو القروض، وهو ما أدى إلى ارتفاع إجمالي صافي دخل الفوائد للبنوك المدرجة بنسبة تبلغ نحو 31% على أساس سنوي ليصل إلى نحو 60.1 مليار جنيه خلال نفس الفترة، كما ارتفع دخل الأتعاب والعمولات بنسبة 29% على أساس سنوي ليصل إلى 6.3 مليار جنيه، لتتجه البنوك إلى خفض إجمالي المخصصات لديها بنسبة 63%، ما انعكس على نتائج أعمال البنوك بصورة إيجابية.
ومن الجدير بالذكر أن صافي القروض نما بنسبة نحو 34% خلال الربع الماضي، بينما ارتفعت إجمالي الودائع بنحو 25% على أساس سنوي خلال نفس الفترة.
0 تعليق