الصحافة بين رسالتها النبيلة وتوظيفها كأداة للهدم

أخبارنا 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ

لم تكن الصحافة يومًا مجرد أداة لنقل الأخبار أو تسلية الجماهير، بل حملت منذ نشأتها الأولى رسالة تنويرية سامية. كانت منبرًا للمثقفين، ومرآة تعكس هموم الشعوب وآمالها، وسلاحًا ناعمًا في وجه الاستبداد والظلم، ورافعةً من أجل بناء مجتمع أكثر وعيًا وعدالة. لكن، هل لا تزال الصحافة اليوم تحافظ على هذه الوظيفة النبيلة؟ أم أنها انزلقت تدريجيًا لتصبح أداة تُدار عن بُعد لخدمة أجندات ومصالح لا علاقة لها بالمهنة ولا بأخلاقياتها؟

 

من التنوير إلى التلاعب

 

في زمن الصورة والصوت والسرعة، تغيّرت وظيفة الصحافة. لم يعد المحتوى محكومًا باعتبارات الحقيقة والمصلحة العامة بقدر ما صار خاضعًا لمنطق السوق، والسياسة، والمصالح الجيوسياسية. عدد غير قليل من المنابر الإعلامية الكبرى، التي كانت تُعد سابقًا مدارس في المهنية والنزاهة، تحولت إلى أدوات ناعمة تُستخدم للتأثير في الرأي العام وتوجيهه وفق أجندات محددة.

تسود اليوم صحافة الإثارة والفضائح، والتحريض والتضليل، على حساب صحافة التحقيق، والاستقصاء، والبحث عن الحقيقة. وهو ما جعل الصحافة أحيانًا معولًا للهدم أكثر منه أداة للبناء.

 

الإعلام كأداة في الحروب الناعمة

 

لم تعد الحروب تُخاض بالسلاح وحده، بل أصبحت وسائل الإعلام من أقوى أدوات الحرب الناعمة. تُستخدم لتوجيه السرديات، وتشويه الخصوم، والتأثير في الشعوب، وبث الشك والفوضى. في هذه الحرب الرمزية، لا تطلق الرصاصات، بل العناوين والمصطلحات والصور المشحونة.

ويكفي أن نتابع تغطية حدث دولي واحد من منابر إعلامية مختلفة لنُدرك مدى التحيز والانحراف في المعالجة الإعلامية، وفقًا لمواقعها من الصراع وأجندات مموليها.

 

المغرب نموذجًا: الحاجة إلى التبصير قبل التحصين

 

في السياق المغربي، يُضاف تحدٍّ نوعي إلى هذا المشهد: فالمجتمع المغربي لا ينعم كامل أفراده بنفس القدر من التعليم والتكوين الإعلامي الذي يتيح لهم فرز الغث من السمين، أو التمييز بين الإعلام المواطن والإعلام المعادي. ما يجعل جزءًا كبيرًا من المواطنين عُرضة للتأثر السريع بالسرديات المضللة التي تبثها منابر أجنبية، أو حسابات مشبوهة على مواقع التواصل الاجتماعي.

يُضاف إلى ذلك ضعف التكوين النقدي لدى الكثير من المتلقين، ما يجعلهم أسرى العناوين الصادمة أو الأخبار الكاذبة التي تُعاد صياغتها بذكاء لإثارة الشكوك أو ضرب الثقة في المؤسسات الوطنية. وهنا تتجلى خطورة الحرب الإعلامية التي تستهدف المجتمعات من الداخل، عبر تشويه رموزها، وتفكيك وحدتها، وخلق حالة من التيه وفقدان البوصلة.

 

نهاية الاستقلالية: الصحافة التابعة

 

كثير من المنابر الإعلامية اليوم تابعة بشكل مباشر أو غير مباشر. البعض منها مملوك من قبل حكومات أو رجال أعمال مرتبطين بمصالح سياسية واقتصادية كبرى، والبعض الآخر يتحرك وفق دعم وتمويل من مؤسسات أجنبية لها أهداف استراتيجية. هذا التبعية تمسّ بشكل مباشر بمصداقية الصحافة وتُفرغها من مضمونها التحريري.

في هذا السياق، لا غرابة أن نجد بعض المنابر تسكت عن جرائم ترتكبها دول داعمة لها، وتُضخم في المقابل أحداثًا صغيرة إذا صدرت عن خصوم تلك الدول. ويصبح خطابها متقلبًا ومتعدد المعايير، خاصة حين يتعلق الأمر بقضايا حساسة كالوحدة الترابية أو السيادة الوطنية.

الحاجة إلى صحافة وطنية: مشروع ضرورة

 

أمام هذا الواقع المربك، تبرز الحاجة إلى بناء صحافة وطنية حقيقية. صحافة مستقلة في قرارها، واضحة في ولائها الوطني، لا تشتغل بالبوق الدعائي الضيق، ولا تستنسخ خطاب السلطة بشكل فج، ولكن تدافع عن المصالح الوطنية العليا انطلاقًا من المهنية، والمصداقية، والانخراط في معركة الوعي.

الصحافة الوطنية ليست خادمة للأجندة السياسية، لكنها أيضًا ليست محايدة عندما يتعلق الأمر بالقضايا السيادية، والحقوق التاريخية، ومصلحة الشعب. هي صحافة تفضح الفساد، وتُعرّي الكذب، وتُبصّر الناس، وتتصدى في الآن نفسه للحملات الدعائية الأجنبية التي تسعى إلى ضرب استقرار الدولة أو تشويه رموزها.

 

بناء صحافة وطنية: من أين نبدأ؟

 

لبناء صحافة وطنية حقيقية، لا بد من توافر عدة شروط:

 

التحرر من التبعية: ماليًا وتحريريًا، من خلال دعم الدولة للصحافة الجادة دون خنقها، وتوفير بيئة تشجع المقاولات الإعلامية المستقلة.

 

تكوين جيل جديد من الصحفيين: مؤمن برسالة المهنة، متشبع بقيم الوطنية، ومسلّح بأدوات العصر من تقنيات واستراتيجيات إعلامية حديثة.

 

تشجيع الإعلام المحلي: وإعطاؤه دورًا في إنتاج سرديات تنبع من الواقع المغربي، بلغته ولهجته وأسئلته الخاصة.

 

إرساء أخلاقيات المهنة: من خلال مجالس مستقلة تراقب الأداء، وتحاسب التجاوزات، وتحصّن المهنة من الابتذال والتوظيف الأيديولوجي.

 

 

الخلاصة: السيادة الإعلامية جزء من السيادة الوطنية

 

في عالم اليوم، لا تكتمل سيادة الدولة دون سيادة إعلامية. كما تحرص الدول على حماية حدودها الترابية، عليها أن تُحصّن حدودها الرمزية، وخطابها الداخلي والخارجي. هذا لا يعني الانغلاق أو التعتيم، بل يتطلب خلق نموذج إعلامي وطني: حر، مهني، ومواطِن.

المعركة اليوم معركة سرديات، وصور، وتعريفات. ومن لا يملك أدوات رواية قصته، سيروي عنه الآخرون ما يشاؤون. لذلك، فإن الاستثمار في الإعلام الوطني ليس ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية الوعي الجماعي، وصون المكتسبات، ومواجهة كل محاولات الاختراق والتشويش.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق