د. أيمن سمير
لم يفاجأ الكثير من السودانيين عندما أكدت صحيفة نيوريوك تايمز في 16 يناير الماضي أن الجيش السوداني استخدم السلاح الكيماوي مرتين على الأقل ضد قوات الدعم السريع، ووفق حديث عدد من مسؤولي المخابرات الأمريكية للصحيفة فإن قائد الجيش عبد الفتاح البرهان هو الذي أمر بشكل مباشر مجموعة في الجيش السوداني باستخدام هذه الأسلحة المحرمة دولياً لوقف تقدم قوات الدعم السريع، وهي أسلحة تقع ضمن أسلحة الدمار الشامل، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة لفرض عقوبات صارمة على قائد الجيش السوداني، وبعد تلك الواقعة بنحو شهرين
في المعركة الأخيرة التي شهدها القصر الجمهوري عاد الجيش السوداني والميليشيا الإخوانية التي شكلها قبل وبعد هذه الحرب لاستخدام أسلحة كيماوية من جديد في انتهاك صارخ للقوانين الدولية واتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية.
ووفق المصادر الاستخباراتية الأمريكية فإن العناصر الإخوانية التي باتت تتحكم في القرار داخل الجيش السوداني هي التي تدفع البرهان لاستخدام تلك المخزونات من الأسلحة الكيماوية ضد المدنين وقوات الدعم السريع، ووفق شهادات عدد من سكان الخرطوم فإن الجيش السوداني استخدم الأسلحة الكيماوية لإخراج قوات الدعم السريع من القصر الجمهوري، ما أدى إلى إصابة الكثير من المدنيين وما زالوا يتلقون العلاج حتى الآن.
لم يستخدم البرهان السلاح الكيماوي فقط ضد مواطنيه، بل استخدم أيضاً الغذاء كسلاح عندما أمر بمنع دخول المساعدات الإنسانية والطبية للمحاصرين المدنيين في مناطق القتال سواء في أم درمان أو في دارفور، وقبلها في مدينتي الخرطوم وود مدني، وزاد على كل هذا استخدام الميليشيات الإخوانية والداعشية في الجيش السوداني الطيران الحربي ضد الأعيان والأهداف المدنية في 10 ولايات سودانية منذ اندلاع الحرب، وهو ما أدى الى تدمير الكثير من مقدرات السودان خصوصاً المدارس والمستشفيات ومصافي البترول. وتشير الإحصاءات الدولية الى مقتل عشرات الآلاف من المدنيين جراء استخدام الطيران الحربي في مناطق مدنية. وكشف سقوط طائرة عسكرية في أم درمان في شهر فبراير من العام الجاري أن جرائم قتل المدنيين بالطيران الحربي الذي يتحكم فيه قادة عسكريون من تنظيم الإخوان تجري على نطاق واسع في الحرب الحالية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
وساهم استخدام الجيش السوداني الاسلحة الكيماوية والطيران الحربي، وعدم احترام قوانين الحرب التي تحمي المدنيين أثناء الصراعات في رفع عدد القتلى، وفق تقديرات الأمم المتحدة لنحو 150 ألف قتيل، ونزوح نحو 13 مليون سوداني منهم 4 ملايين خارج البلاد، وانعدام الأمن الغذائي لنحو 70% من السكان، وتدمير البنية التحتية بالكامل في الخرطوم وولايات دارفور وكردفان، كما تم تدمير القطاع الصحي والمستشفيات، وانتشرت الأوبئة والمجاعة، ووفق بيانات الأمم المتحدة فإن نحو 50% من الأطفال يعانون من الأمراض المختلفة وانهيار الخدمات الأساسية بعد أن توقفت العملية التعليمية بالكامل إثر قصف مدفعية الجيش السوداني غالبية المدارس، واستخدامها مقرات عسكرية، فكيف كانت جماعة الإخوان التي تسيطر على المؤسسة العسكرية السودانية سيفاً مسلطاً على رقاب السودانيين طوال هذه العقود الطويلة التي تلت استقلال السودان وحتى اليوم؟ وكيف كتبت النزاعات التي بدأها الإخوان في جميع مناطق وأقاليم السودان، خصوصاً في دارفور وجبال الأنجسنا والجنوب والشرق، فصولاً لم تنته من المعاناة والقتل والتشريد والحرق الجماعي لآلاف القرى والبيوت السودانية؟
مأساة نوعية
مراجعة السنوات الماضية تكشف أن الشعب السوداني دفع ثمناً باهظاً لحكم جماعة الإخوان، منذ أن تسللت هذه الجماعة الظلامية الي دوائر صنع القرار في عهد حسن الترابي المؤسس الحقيقي لجماعة الإخوان في الحياة السياسية والعسكرية، ولعل الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في دارفور كانت نموذجاً على وحشية تنظيم الإخوان، الذي أثبت من خلال هذه الحرب أن مشروعه إيديولوجي يرتبط فقط بمصالح التنظيم الدولي للإخوان وليس مشروعاً وطنياً سودانياً، وخير شاهد على هذا حرق آلاف القرى بسكانها من أصول إفريقية في دارفور بداية من شهر فبراير 2002 ولفترة تزيد على 10 سنوات، وهو ما يؤكد أن جماعة الإخوان ليس لها أي علاقة من قريب أو بعيد بقيم ومعاني الإسلام والمسلمين، لأن جميع سكان دارفور وبنسبة 100% من المسلمين، ووفق أرقام الأمم المتحدة فإن الجرائم المروعة التي ارتكبها الجيش السوداني والقوات الرديفة التي كانت تعمل معه قتلت ما يزيد على 300000 دارفوري، ووثقت الأمم المتحدة الآلاف من جرائم الاغتصاب الجماعي لأبناء قبائل مثل الزغاوة والفور في إقليم دارفور على يد جماعات وكتائب الإخوان. ولم يكتف الجيش السوداني بهذا الامر بل وثقت الأمم المتحدة ارتكاب الجيش السوداني جميع جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية بما فيها النزوح الضخم والتهجير القسري لملايين السكان الذين حاولوا الاحتماء في مخيمات بعيدة عن المواجهات. ووثقت الأمم المتحدة إصرار وتعمد الجيش السوداني ارتكاب هذه المجازر عندما ذهبت ميليشياته الاخوانية وحرقت هذه المخيمات بمن فيها من سكان، وهو الأمر الذي دفع وزير الخارجية الامريكي في ذلك الوقت كولن باول للقول إن ما جرى في دارفور هو أكبر مأساة إنسانية في القرن الحادي والعشرين، وأن أفعال الجيش السوداني تشكل «إبادة جماعية أو فعلاً من أفعال الإبادة الجماعية» للسكان في دارفور رغم أن سكان دارفور لم يقاوموا سلطة الإسلامويين الذين سيطروا على الحكم بشكل كامل منذ عام 1989 حيث بدأت حملة التطهير العرقي والإبادة الجماعية منذ عام 1991 عندما حاولت حكومة الخرطوم الإسلاموية فصل سكان دارفور الأفارقة «المسلمين» عن عرب دارفور، وتقسيم إقليم دارفور الى 5 ولايات إدارية لتعميق حالة الفقر والتهميش لدى سكان الإقليم، وهو ما دفع إروين كوتلر وزير العدل الكندي السابق لاتهام جيش الخرطوم بانتهاج سياسة تمييز عنصري وتهجير قسري ضد سكان دارفور.
ورغم صدور قرار من مجلس الأمن وهو القرار 1564 عام 2004، الذي يدعو لوقف الحرب إلا أن الجيش السوداني وفق بيان صادر من كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة في ذلك الوقت ضرب بعرض الحائط كل القرارات والمناشدات بوقف قتل وحرق القرى في دارفور. وكما يستخدم الجيش السوداني في الوقت الحالي الطيران العسكري لقتل المدنيين استخدم نفس المتطرفين في عامي 2004 و2005 طائرات الهيلوكوبتر في تدمير مئات القرى والبلدات والتجمعات الصغيرة للسكان في دارفور، الأمر الذي دفع الأمم المتحدة لتشبيه ما جرى في دارفور بالإبادة الجماعية التي وقعت في رواندا وكوسوفو.
الجنجويد الجدد
بالرغم من ارتكاب الجيش السوداني جميع أنواع الجرائم في دارفور، إلا أنه كان يخسر أمام رفض أبناء الإقليم المجازر والانتهاكات التي بدأت أوائل التسعينيات في الإقليم الذي تقترب مساحته من مساحة فرنسا، وعندما عجز الإخوان عن فرض سيطرتهم على دارفور وتعاطف العالم كله مع ضحايا هذه المأساة التي احتلت العناوين الأولى لوسائل الإعلام على مدار نحو 8 سنوات، لجأ الإخوان كعادتهم الى الخداع عندما شكلوا مجموعات شبه عسكرية، ومدعومة بالكامل من الجيش السوداني لقتل أبناء السودان المسلمين في دارفور تم تسميتها بالجنجويد بهدف قتل وحرق أبناء دارفور دون مسؤولية جنائية.
اليوم يسير التيار الإخواني في الجيش السوداني على نفس الخطى والجرائم التي وقعت في دارفور بداية هذا القرن، وذلك من خلال تشكيل كتائب وفيالق إخوانية تعلن عن نفسها مع كل جريمة، خاصة ما وقع في الخرطوم، والخرطوم بحري في مارس الماضي، وقبلها إعدام عشرات المدنيين وتصويرهم بالصوت والصورة في ود مدني، ويتكرر نفس المشهد على يد أتباع الإخوان في مدينة الفاشر كبرى مدن دارفور في الوقت الحالي.
وكما قتلت ميليشيا الإخوان آلاف السكان في دارفور يتفاخرون اليوم بجرائمهم التي يجري تصويرها على مرأى ومسمع وسائل الاعلام التابعة لهم خاصة من جانب الميليشيا التي تسمي نفسها «كتيبة البراء بن مالك»، التي أعلنت تحولها إلى فيلق في إبريل من هذا العام، وتتكون أساساً من شباب التنظيم الإخواني الذين كانوا في الجامعات والمؤسسات، وجرى تجهيزهم لحماية مصالح الجماعة الإخوانية حين تتعرض للخطر، وبعد وقوع انتفاضة 2019، وخسارة الإخوان رسمياً السلطة أسرعت الجماعة بتجهيز «كتيبة البراء» لتعيد الإخوان من جديد الى كرسي السلطة من خلال الدفع بالفريق عبد الفتاح البرهان الذي أعطى هذه الكتيبة صلاحيات تفوق صلاحيات الجيش حتى أصبحت هي الجيش السوداني.
ورغم تراجع نفوذ ونشاط كتيبة البراء في الفترة من 2019 حتى بداية الحرب الحالية في 15 إبريل 2023، لكنها عادت أكثر عنفاً من خلال تنظيم تظاهرات «الزحف الأخضر»، التي كان يعمل «الإخوان» من خلالها لإفساد محاولات بناء دولة مدنية، ومرحلة انتقالية قبل نحو عامين تمهد لقيام دولة ذات مؤسسات تحترم القانون وتقف على مسافة واحدة من سكانها، وزاد نشاط «كتيبة البراء» عقب انقلاب 25 أكتوبر 2021 حيث بدأت هذه الميليشيا تتصدر المشهد وهي تحمل الأسلحة الخفيفة دون أن يكون هناك تفسير لهذه الظاهرة أو تدخل من قبل السلطات لحسمها، والتي زادت من نشاطها بشكل لافت قبل اندلاع الحرب الحالية بأيام قليلة حيث ظهر أفرادها وهم يحملون القنابل اليدوية والمولوتوف، واشتبكوا مع عدد من المعارضين لهم في منطقة كوبر، ونظموا عدداً من التدريبات العسكرية والتمارين والأناشيد المتطرفة، وهو ما يقول إن الإخوان كانوا يخططون ويجهزون لهذه الحرب منذ عام 2019، لذلك أعلنت «كتيبة البراء» بعد ساعات قليلة من اندلاع الحرب أنها تسلمت السلاح من مخازن الجيش، رغم أن «أوامر الاستنفار» لمقاتلي الاحتياط صدرت بعد أكثر من شهر من بدء الحرب، ولهذا لم يستغرب أحد عندما شاهدوا ما ترتكبه هذه الميليشيا من مجازر بالقرب من معسكر «نسور الاحتياطي المركزي»، وتدار هذه الكتيبة بالكامل من جانب قيادات في حزب المؤتمر الوطني الإخواني.
كتائب متطرفة
عمل الإخوان في السابق مع أسامة بن لادن يعملون حالياً مع الكتائب والمجموعات والتنظيمات التكفيرية والداعشية شديدة التطرف، فهناك كتائب متطرفة أخرى ذات علاقة بالحركة الإسلامية القومية مثل ما يسمى «كتيبة أنس، والبرق الخاطف، وكتيبة الطيارين، وجنود الحق، وعبد الله جماع، وأنصار دولة الشريعة» وهي كتائب لا تختلف عن «القاعدة» و«داعش»، لأنهم ينتمون لما يسمى بالسلفية الجهادية، وهؤلاء يمثلون أكبر عقبة أمام أي محاولة لوقف الحرب، لأنهم يتلقون الأوامر من القيادات الإخوانية داخل وخارج السودان، وزادت قوتهم بعد قرار البرهان تشكيل «المقاومة الشعبية»، خاصة أن كل القيادات التي تعمل في ما يسمى «الاستنفار» يتم اختيارها من حزب المؤتمر الوطني الذي يوصف في السودان منذ 10 سنوات بأنه هو الرديف العسكري والسياسي للحركة الإسلامية في السودان.
الواضح أن تنظيم الإخوان في السودان مثل غيره من التنظيمات المتطرفة التي ساهمت في اندلاع الصراعات والحروب وتسببت في كل أنواع المآسي والمعاناة لملايين البشر في المنطقة العربية وخارجها، وهو ما يستوجب تشكيل تحالف دولي لمكافحة الإخوان على غرار التنظيم الدولي لمكافحة داعش في سوريا والعراق، لأن ميليشيا التنظيم وأفكاره التكفيرية والظلامية العابرة للحدود تحتاج أيضاً إلى جهد عالمي استخباراتي لمواجهة كل أساليب التحايل والخداع التي تمارسها الميليشيات الإخوانية منذ تأسيس الجماعة الأم عام 1928.
أخبار متعلقة :