إعداد: محمد كمال
في أخطر مهمة نفذتها أوكرانيا داخل العمق الروسي، تعرضت خمسة مطارات دفعة واحدة لهجوم غير مسبوق، في إطار عملية «شبكة العنكبوت» التي جرى التخطيط لها على مدار 18 شهراً، ونجحت في تدمير قاذفات استراتيجية، تعد من جواهر القوات الروسية، وتقدر قيمتها بنحو 7 مليارات دولار، وفق ما أعلنت كييف، فيما شبه المدونون الروس العملية بـ«بيرل هاربر جديدة»، في مبالغة واضحة، وإن كانت متأثرة بعنصر المفاجأة المذهل.
● بحسب مراقبين، فإن المواطنين الروس في المناطق التي جرى استهدافها، بدوا غير مصدقين لما يتابعونه أمام أعينهم، حيث تعد المناطق المستهدفة في العمق الروسي بعيدة جداً عن خطوط المواجهة، بل لم تتعرض طيلة الحرب لأي هجوم، وإذ بهم يتفاجأون بمسيرات تخرج من حاويات شاحنات متوقفة في مناطق ريفية هادئة، ومن بعض أسطح المنازل، وتحلق واحدة تلو الأخرى قبل أن تستهدف القواعد الجوية القريبة منها التي تضم بعضاً من أثمن الأصول العسكرية الروسية.
● بادر عدد من السكان بالقفز إلى الشاحنات، محاولين عبثاً منع الطائرات المسيرة من إتمام مهامها الانتحارية، بينما وقف معظمهم مشدوهين مع تردد دوي الانفجارات العنيفة من حولهم، لكن مع تصاعد سحب الدخان فوق قاعدتي أولينيا وبيلايا وظهور لقطات لطائرات أسرع من الصوت تقدر قيمة الواحدة بنحو 75 مليون جنيه استرليني تتحول إلى كرات نارية بواسطة طائرات بدون طيار تكلف بضعة آلاف من الجنيهات الاسترلينية فقط، بدأ يتضح حجم الكارثة.
جواهر القوات الجوية الروسية
● بحسب مسؤولين أوكرانيين، تم تدمير ما يصل إلى 40 من قاذفات القنابل الروسية الأكثر تكلفة وتطوراً، وربما يمثل هذا العدد ثلث أسطول القاذفات الاستراتيجية بالكامل، وجرى ذلك في غضون ساعات قليلة.
● كانت الطائرات المتمركزة في أولينيا وبيلايا من بين جواهر القوات الجوية الروسية، وتتمثل في طائرة تو-95 «الدب»، وهي قاذفة بعيدة المدى قادرة على حمل رؤوس حربية نووية أو تقليدية؛ وطائرة تو-160 «بلاك جاك»، أكبر طائرة مقاتلة في العالم؛ وطائرة تو-22إم3 «باك فاير»، وهي طائرة عمل تفوق سرعة الصوت.
● ووفقاً للاستخبارات الأوكرانية، فإن من بين الطائرات المدمرة، طائرة A-50 Mainstay، وهي طائرة إنذار مبكر وتحكم جوي بقيمة 230 مليون جنيه استرليني. تُعدّ طائرة A-50 بمثابة رادار متحرك ومركز قيادة، وهي ضرورية لتنسيق عمل المقاتلات والدفاعات الجوية. ولم يتبقَّ لروسيا سوى عدد قليل منها، وهي تُعتبر لا غنى عنها.
● قبل أسابيع قليلة، نقلت روسيا العديد من قاذفاتها الاستراتيجية إلى قواعد أعمق داخل أراضيها. حيث تقع أولينيا، داخل الدائرة القطبية الشمالية، على بُعد أكثر من 1600 كيلومتر من الحدود الأوكرانية؛ بينما تقع بيلايا، في سيبيريا، على بُعد حوالي 5500 كيلومتر شرق أوكرانيا، وحتى هجوم الأحد، لم يسبق لأوكرانيا أن ضربت عمقاً يتجاوز 1600 كيلومتر داخل روسيا.
تدريب بالذكاء الاصطناعي
● ومن الواضح أن الروس لم يتوقعوا براعة أوكرانيا أو قدرتها على التخطيط لاستهداف مثل هذه القاذفات، التي أمطرت مدنها بالدمار. حيث لم تعتمد عملية «شبكة العنكبوت» على طائرات بدون طيار بعيدة المدى أو صواريخ، بل على مسيرات صغيرة محمولة باليد، وهي بسيطة نسبياً أثبتت أنها مدمرة في ساحة المعركة، ويطلق عليها (FPV) مُجهزة بمتفجرات، فيما فُتحت مواقع انطلاقها عن بُعد، مما سمح لها بالتحليق ومهاجمة أهدافها القريبة بفعالية كبيرة.
● تشير التقارير إلى أن الطائرات المسيرة دُرّبت باستخدام الذكاء الاصطناعي لضرب الطائرات في أضعف نقاطها، وجاء الهجوم سريعاً لدرجة أنه لا يُعتقد أن أي طيار روسي قد وصل إلى مستوى الأمان النسبي في السماء.
المرحلة النهائية للعملية
● بحسب وسائل إعلام عالمية، فقد بدأت المرحلة النهائية لعملية «شبكة العنكبوت»، قبل بضعة أسابيع، عندما تم تهريب العشرات من الطائرات بدون طيار ذات الرؤية المباشرة إلى روسيا تحت إشراف أجهزة الاستخبارات الأوكرانية، وكانت القاذفات الروسية دائماً هي الهدف.
● كانت الطائرات بدون طيار الأوكرانية مخبأة في حاويات معدلة تم تركيبها داخل شاحنات تجارية يمكن سحب ألواح سقفها بالضغط على زر التحكم عن بعد.
سائقو الشاحنات في حالة ذعر
● بحسب كل الروايات، لم يكن لدى السائقين أي فكرة عن نوعية البضائع التي كانوا يحملونها. وقال سكان بالقرب من قاعدة أولينيا في أقصى شمال روسيا، إنهم شاهدوا سائقاً مذعوراً يركض في دوائر بينما انطلقت طائرات بدون طيار، واحدة تلو الأخرى، من الجزء الخلفي لشاحنته.
● السائق قال للشرطة في وقت لاحق، إنه تلقى تعليمات بركن سيارته في موقف بالقرب من بلدة أولينيجورسك حيث سيقابله شخص ما. ولم تتمكن جميع الشاحنات من الوصول إلى وجهاتها، حيث أظهرت مقاطع فيديو اثنتين على الأقل من الشاحنات تتدمران ذاتياً على أحد الطرق.
● لم تكن هذه المرة الأولى التي تُستخدم فيها الشاحنات في الحرب. ففي عام ٢٠٢٠، فُجِّرت شاحنة محملة بالمتفجرات عن بُعد خلال هجوم على جسر كيرتش الذي يربط شبه جزيرة القرم بالبر الرئيسي الروسي. لكن هذه العملية كانت أكثر تعقيداً.
بيرل هاربر جديدة
● سارع المدونون العسكريون الروس إلى تشبيه العملية بالهجوم المفاجئ الذي شنته اليابان على بيرل هاربر في عام 1941، وهي غارة جوية مباغتة نفذتها البحرية الإمبراطورية اليابانية على الأسطول الأمريكي القابع في المحيط الهادئ في قاعدته البحرية في ميناء بيرل هاربر بجزر هاواي، وقد غيَّر هذا الحدث مجرى التاريخ وأرغم الولايات المتحدة على دخول الحرب العالمية الثانية.
● دعا بعض المدونين إلى الانتقام، وقال أحدهم: «نأمل أن يكون الرد مماثلاً للرد الأمريكي على الهجوم على بيرل هاربر أو حتى أكثر قسوة»، فيما وصفت قناة مرتبطة بوزارة الدفاع الروسية الهجوم بأنه ضربة «حساسة للغاية» للدرع النووية الروسية. وأضافت: «من المستحيل تعويض هذه الخسائر».
● يرى مراقبون أن تشبيه العملية ب«بيرل هاربر جديدة»، ربما يعتبر مبالغة، ولكن من حيث الجرأة والنطاق وربما الأضرار، كانت الهجوم بمثابة لحظة غير مسبوقة في الحرب. لدرجة أن المسؤولة الرئاسية الأوكرانية إيرينا فيريششوك، قالت: «لقد أرست أجهزة الأمن الأوكرانية معايير جديدة في إدارة عمليات قتالية واسعة النطاق على أراضي روسيا. هذه ليست ضربة قاضية، بل ضربة قاضية بالغة الأهمية».
● بالنظر إلى الاختلافات بين عملية شبكة العنكبوت وبيرل هاربر، فقد أسفر الهجوم الياباني عن مقتل 2403 أمريكيين وتدمير أو إتلاف 347 طائرة أمريكية و15 سفينة حربية.
خطة خداع وعودة المشاركين سالمين
● يبدو أن أوكرانيا استخدمت خطة خداع استراتيجي، حيث شتتت الدفاعات الروسية، بثلاث هجمات استهدفت خطوط سكك حديدة، أثناء مرور قطارات عسكرية، قبل ساعات قليلة من تنفيذ الهجوم واسع النطاق، والذي كان تأثيره أكبر بكثير.
● كان من اللافت وفق الرواية الأوكرانية كذلك، أن جميع من شاركوا في العملية عن علم عادوا سالمين، وأنجزوا مهمتهم على نحو مذهل للغاية.
● رغم قوة الضربة الأوكرانية، يرى بعض المحللين أنها لن تعتبر نقطة تحول في الحرب، لكنها تعزز الروح المعنوية للجنود الأوكرانيين الذين يتلقون هزائم متواصلة خصوصاً في الأشهر الماضية وعلى كل الجبهات.
العملية والتوقيت الحرج
● رغم إعلان أوكرانيا أنه بدأ التخطيط للعملية قبل عام ونصف، فإنها اختارت لحظة حرجة لتنفيذها، قبل ساعات فقط من اجتماع المندوبين الروس والأوكرانيين في إسطنبول، كرسالة إلى موسكو، مفادها أنه من الممكن تعريضها لإيذاء شديد، ومن ثم يجب دفعها إلى التفاوض بجدية لوقف الحرب، وفق ما قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي ذكرت وسائل إعلام أوكرانية أنه كان يشرف شخصياً على العملية.
● بالنظر إلى تأثير العملية في سير المفاوضات بإسطنبول، فإن إعلان زيلينسكي عن ترؤس وزير دفاعه الوفد الأوكراني، وباعتبار أنه ركن أساسي في العملية، فإن حضوره وجهاً لوجه مع الروس سيثير إزعاجهم، وربما قد يؤدي إلى فشل المفاوضات، حيث لن يوافق الروس بالطبع على تقديم أي تنازلات فور تلقيهم ضربة موجعة.
لماذا اسم «شبكة العنكبوت»؟
● يبدو أن إطلاق اسم شبكة العنكبوت على العملية، كان هدفه رسالة أوكرانية، مفادها أن شبكة الدفاعات الروسية يمكن اختراقها بسهولة، والتلميح إلى أنها واهنة مثل بيوت العنكبوت، ويبدو أن ذلك تناسق مع تصريح ترامب قبل أيام من أن بوتين يلعب بالنار، محذراً من أن أشياء «سيئة حقاً» كانت ستحدث لروسيا لولاه، وأنه لو استهدف السيطرة على أوكرانيا سيخسر روسيا.
● بحسب المحللين العسكريين، فإن قدرة أوكرانيا على توجيه ضربات قوية بهذه السهولة الظاهرة تُعتبر محرجة للغاية لروسيا، فقد كشفت عن نقاط ضعف في ما كان يُفترض أن يكون من بين أكثر المنشآت العسكرية الروسية حمايةً. ولم تكن الأضرار رمزية فحسب، بل تدهورت قدرات روسيا على الضربات بعيدة المدى، وتكبدت خسائر مالية كبيرة.
● صحيح أن روسيا لا تزال تمتلك عشرات القاذفات الاستراتيجية، لكن ربما يتعين عليها الآن نقلها شرقاً.
● حتى في هذه الحالة، سيظل الشك قائماً بأن لا مكان آمن في روسيا، وقد تكون هذه أقوى مكاسب أوكرانيا من العملية، خصوصاً أن بعض المدونين العسكريين الروس قالوا نصاً «سيُعتبر الهجوم يوماً أسود للطيران الروسي بعيد المدى».
0 تعليق