في السياسة، كما في الحياة، هناك لحظات لا تُقاس بمدى السلطة أو عدد الإنجازات التشريعية، بل تُقاس بالرمزية وبما تُحدثه من شرخ في البنى التقليدية وفتح لمسارات جديدة وفي التاريخ السياسي الأمريكي، يُعد حضور كارول موسيلي براون من أبرز هذه اللحظات، فهي لم تكن أول امرأة سوداء تُنتخب إلى مجلس الشيوخ الأمريكي فحسب وإنما كانت علامة فارقة في سردية التمثيل السياسي في الولايات المتحدة.
في كتابها «الرائدة: الإصرار في الحياة والسياسة»، تكتب براون شهادة شخصية وتاريخية في آن معاً، تجمع فيها بين السيرة الذاتية والتأمل السياسي وتوجه من خلالها رسالة أخلاقية إلى أجيال قادمة من النساء والملونين والطامحين إلى قيادة تحمل وجهاً مختلفاً للسلطة.
تنطلق السيرة من الطفولة في حي ساوث سايد بمدينة شيكاغو، حيث نشأت في أسرة متواضعة ضمن واقع اجتماعي واقتصادي معقد. لا تستعرض براون هذه المراحل الأولى من حياتها بروح الحنين، بل تسعى لتحليل الجذور العميقة التي شكّلت وعيها الطبقي والسياسي وتبلورت في إحساسها بالتهميش كواقع يومي أكثر منه إطاراً مفاهيمياً، بعد دراستها القانون وعملها مدعية عامة، انتقلت إلى العمل التشريعي في مجلس نواب ولاية إلينوي، لتبدأ لاحقاً واحدة من أكثر التجارب السياسية إثارة في التاريخ الأمريكي الحديث بترشحها لعضوية مجلس الشيوخ عام 1992، متحدية التوقعات ومزيحة مرشحاً مخضرماً من داخل المؤسسة الديمقراطية.
حين فازت، لم يكن دخولها مجلس الشيوخ حدثاً انتخابياً عابراً، بل لحظة تحوّل بنيوية كشفت هشاشة التمثيل داخل المؤسسة ورسّخت إمكانية إعادة تعريف السلطة، تسرد براون في كتابها تفاصيل الصدامات التي واجهتها داخل المؤسسة التشريعية، بدءاً من التهميش المتعمّد، وصولاً إلى التهجم العلني من بعض الزملاء. تواجه هذا كله بإصرار واضح على الحضور، رافضة أن تكون مجرد رمز ومصممة على أن تكون فاعلة ومؤثرة في ملفات التعليم والتمييز العنصري وحقوق المرأة والعلاقات الأمريكية الإفريقية، تتأمل كيف واجهت خطاباً إعلامياً منحازاً وضغوطاً متواصلة، لم تكن جميعها سياسية بطبيعتها، بل تداخلت فيها العنصرية مع التمييز الجندري، في محاولة مستمرة لعزلها وشلّ فاعليتها.
ورغم ذلك، تمضي براون في توثيق لحظات الانتصار والخيبة والتوتر، دون أن تسقط في خطاب الشكوى، فهي تدرك أن المعركة لم تكن يوماً متكافئة، لكنها تجد في الاستمرار شكلاً من أشكال الانتصار بعد خروجها من مجلس الشيوخ، تنتقل بنا إلى تجربتها في العمل الدبلوماسي، حيث شغلت منصب سفيرة في نيوزيلندا وساموا وتروي محاولاتها للعودة إلى الحياة السياسية وتفاصيل انحسار الأضواء وصمت الحلفاء. تتأمل هذه التحولات بعمق إنساني، متسائلة عن معنى أن تغيب من مركز السلطة وعن طرق بناء الذات في الهامش، بعيداً عن الصخب، وماذا يعني أن يُنظر إلى الإنسان باعتباره تمثيلاً جماعياً لا فرداً له تاريخه وصوته الخاص.
يتجنب الكتاب الخطاب البطولي المباشر ويبتعد عن تقديم تجربة براون كقصة صعود ناجحة بمعناها المألوف، بل يذهب نحو مساءلة فكرة القيادة ذاتها: من يُسمح له بالقيادة؟ من يُدعَم؟ من يُستبعد؟ من يُصوَّر كحالة استثنائية لا تُكرر؟ ومن تُفتح له الأبواب دون حاجة إلى شرح أو تبرير؟ ومن خلال هذه الأسئلة، تكشف براون عمق الفجوة بين الشعارات التي ترفعها السياسة الأمريكية وواقع الممارسة فيها.
يطرح هذا العمل الصادر حديثاً عن دار «هانوفر سكوير برس» باللغة الإنجليزية ضمن 352 صفحة، تأملاً مستمراً في مغزى النضال العام وفي علاقة الفرد بالسلطة، وبالتاريخ وبالانتماء، تكتب براون بروح الإنسان الذي خبر الأمل وذاق الخذلان، دون أن يتخلى عن إيمانه بأنّ السياسة ليست مجالاً للهيمنة، بل أداة للتغيير.
هذه السيرة ليست دفاعاً عن إنجازها الشخصي ولا مرافعة ضد الظلم كما تقول المؤلفة، بل تأمل في معنى التقدّم داخل بنية مصممة لمنع التقدم وهي في النهاية دعوة صادقة منها للتفكير في السياسة بصفتها مسؤولية أخلاقية ومجتمعية، تستدعي الحضور، لا الصمت والمقاومة لا الاستكانة، والاستمرار لا الانكفاء.
0 تعليق