نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
سادن.. الحنين والأسطورة في وديان هوازن, اليوم الجمعة 2 مايو 2025 04:17 مساءً
نشر بوساطة أحمد السماري في الرياض يوم 02 - 05 - 2025
في رواية "سادن"، يفتح لنا جريدي المنصوري نافذة على عالم مسكون بالحنين والأساطير والخذلان. عالمٌ تفترشه سهول هوازن وتكتنفه جبال بني سعد، حيث مرابع حليمة السعدية، مرضعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، التي أضفت عليها قداسة تاريخية. ترقد بني سعد جنوب الطائف، متنعمة بخصوبة أرضها وطبيعتها الجبلية الجميلة ووديانها الخضراء، حيث لا تمضي الحكايات في خط مستقيم، بل تتلوى كأودية السراة إذا فاض بها المطر، حاملةً في طياتها وجع الحب الأول ودهشة الفقد.
في قلب هذا العالم يولد جمار، فتى يحمل اسمه من وثنٍ جاهلي قديم، كأنما وُلد محملاً بعبء الأقدار الغامضة. مع صديقه ذيبان، يشدان الرحال بحثًا عن الجمل الأسود، الذي قيل إن في حليبه أو سنامه علاجًا لوالد محبوبته (محمدة)، لكنها رحلة مدبرة،
مكيدة حاكتها أم الفتاة لتقصي جمار، وتهيئ الابنة لشاب نجدي أكثر مالاً ومكانة. في تلك البقعة من الأرض، حيث تكون الطائف قبلتها الحضرية، والجن وإبليس مجرد اتجاه بل قدر، يقول الكاتب في سطر يختصر الألم كله: "يقولون لعله سُرِق، ويقولون ربما حنّ إلى
دياره حين شاهد البرق ناحية الجنوب، ومن يستطيع أن يقف في وجه الجنوبي إذا حنّ إلى دياره" البرق هنا ليس برق السماء فحسب، بل برق
الذاكرة، برق الأرواح التي لا تهدأ إلا إذا عادت إلى موطن نشأتها
الأولى. وفي مشهد آخر، ينقلنا المنصوري إلى حارة البخارية في الطائف، حين زارها مع جده، حارة يضج فيها الخليط البشري بالحياة والمفارقات: "نحن في حارة البخارية، كلهم أصحاب، عيال الحارة مثل
أبناء القبيلة عندنا، لكنهم من كل بلد وكل ديرة، وتجمعهم الحارة، وبينهم أخوّة وحميّة ومواقف، ومنهم رجال فيهم خير، لكن هؤلاء الذين حول النار الآن هنا فيهم الصاحي وفيهم المجنون، هيا أسرع لكي نبتعد عنهم قبل أن يأتي أصحابه ممن حارة وادي النمل أو من حارة أسفل." رغم ضيق الأزقة ومكابدة العيش، إلا أن النخوة والمروءة
تجمع أبناء الحارة كما تجمع العائلة أبناءها، قبل أن تفرقهم النيران
الصغيرة التي توقدها الحارات المجاورة.
الرواية تأخذ بعدًا أسطوريًا حين تدفع جمار نحو المجهول، إلى ليل
الجبال العميق، حيث يصور لمن يريد يكون شاعراً أن يبيت في غار الجن أو غار السعلية: "يوم واحد يكفي لصعود هذا الجبل الوعر
سيراً على الأقدام من أسفله حتى الوصول إلى القمة حيث الغار،
ويجب أن يكون ذلك في أول ليلة من الشهر. الظلام الدامس ينضج
الشعر، ليس حولك سوى أصوات حفيف وصفير وهمهمة وبغام، وطنين ووطوطة، وشطيط وغقغقة، مع فرفرة وصرصرة، وحركة كائنات ليلية غريبة، وسباع تمر مسرعة وسط الظلام مع موجات خرفشة وهبيد، أو حمحمة وعواء وهدير، وطراد وعراك. في هذه الأجواء عليك أن تهب نفسك للمكان وتنام، لتأتيك (السقوة) في المنام؛ حليب فيه شعر ماعز تشرق به ثم تبلعه وأنت تهذي، تحضره لك حسناء فاتنة من بنات الجن، ويحاورك شاعر من ذلك العالم الخفي وترد عليه شعراً. وعندما تشرق شمس ذلك اليوم، إن كنت موجوداً، فليس لك إلا أن تخرج شاعراً أو مجنوناً." وصف بديع للحظة اختبار: وحده من يواجه العتمة بلا وجل يولد شاعرًا، ومن تخونه شجاعته يسكنه صدى الهمسات وأصوات المجهول، ثم يتلبسه الجنون. وفي مشاهد قاسية أخرى، يرسم المنصوري ملامح الأرض التي لا ترحم، حيث تصطف المخاطر في كل خطوة:
"من هذا الطريق نتجه نحو تهامة، الحدود ترسمها الجبال الشاهقة، والموت تدنيه الأفاعي وفحول الإبل
الهائجة والسيول الجارفة، والوباء من شرب المياه الراكدة فترات القحط، وشمس القيظ الحارقة، والذئاب
والضباع الغادرة، وعداوات المراعي والنزاع على موارد المياه، وكثيراً ما نسمعهم يرددون: ما من شر إلا على رأس امرأة أو بئر.".
تصوير رائع للتهديد بمخاطر الفناء: السيول الجارفة، ضباع الليل،
الأوبئة، وعداوات المراعي. حياة الإنسان معلقة بخيط رفيع من الحذر والمصادفة. في "سادن"، يقدم جريدي المنصوري عملًا متفردًا، يجمع بين قوة
السرد الشعبي ووهج الشعر الغنائي، محمّلًا نصه بوعي عميق بالتاريخ والمكان. لغة الرواية تأتي مشبعة بالإيقاع، تمزج بين الفصحى القريبة من
الأرض والتصوير المكثف الذي يجعل من الطبيعة شريكًا خفيًا في صياغة المصير. "سادن" رواية تحتفي بالهوية، بالجذور، وبالإنسان
في معركته الدائمة مع الخديعة والخذلان والحنين.
وفي قلب هذا كله، يبقى جمار، شاهداً وسادناً صغيرًا على خيانة الحلم، حاملاً بين ضلوعه أنين التاريخ، وعجائب السراة، ومضارب بني
سعد، وذكريات البرق وصوت الحنين الذي لا يخمد.
انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.
أخبار متعلقة :